كلما أفكر في القيام بأي شيء جديد ينتفض صوت آمر وصارم في عقلي ليحذرني قائلا:
" لا تحاولي لأنك ستفشلين، انتِ غبية ولا تتقنين فعل أي شيء".
 "لن تنجحي في كتابة هذه القصة ولن يقرأ أحد كتاباتك لأنك غير موهوبة".
" لن يتم قبولك في هذه الوظيفة لأنك أقل كفاءة من الاخرين".
 "وجودك في الحياة مثل عدمه ولا أحد يهتم بك".
 حاولت كثيراً أن أتحدى تحذيراته، عندما أنجح يقلل من نجاحي ويطابني بالمزيد، وعندما أفشل يلومني ويعنفني ويذكرني بكل قرار خاطئ اتخذته في حياتي.
بدأت استمع إلى هذا الصوت منذ أن كنت في سن المراهقة ولا زلت اسمعه حتى اليوم خصوصا في لحظات ضعفي واخفاقاتي.
لقد اعتدت على وجوده لدرجة أنني لم اعد اشعر بوجوده إلا عند اعتلال حالتي المزاجية.
  صارت حياتي عبارة عن صراع يومي أخوضه ضد الصوت الناقد كي أثبت له أني انسانة جيدة وأني استحق الحياة والنجاح والحب.
لطالما اعتقد أنني الوحيدة التي تعاني من وجود هذا الصوت القاسي، وأنني الوحيدة التي أعجز عن التخلص منه.
بعد أن قرأت في علم النفس اكتشفت أن معظم الناس يعانون من وجود الناقد الداخلي.
حسب موسوعة ويكبيديا فإن الناقد الذاتي الداخلي هو مفهوم يُستخدم في علم النفس الشعبي، ويشير إلى شخصية فرعية تحاسب الشخص وتحط من قدره. هذا المفهوم مشابه إلى حد كبير لمفهوم الأنا العليا الكابح الذي توصل إليه فرويد، ومفهوم المقوم الذكوري السلبي لدى الاناث الذي توصل إليه الطبيب النفسي كارل يونج.

 كيف وأين نشأ الناقد الداخلي؟ وهل هو جزء ضروري من نفس الانسان أم انه شخصية دخيلة عليه ولا قيمة لها؟

اكتشف الأطباء النفسيون  أن صوت الناقد الداخلي القاسي هو بالأساس صوت ناقد خارجي تربى الانسان على الاستماع إليه في الطفولة مثل صوت الأهل والمدرسين والكبار الذين يمتلكون شخصيات قاسية.
معظم الآباء والأمهات يحبون أطفالهم ويريدونهم أن يكونوا أفضل منهم في الحياة، ولكن كثير منهم يتبعون أساليب تربوية غير سليمة في معاقبتهم أو تحفيزهم، فيعاقبون الطفل بالسب والإهانة والتعنيف القاسي.
 من الشائع أن ترى الأب يسخر من ابنه ويتحداه ينجح في حياته معتقداً أنه بتلك الطريقة يدفعه لمواجهة التحدي بالاجتهاد والعمل لكي يثبت لوالده انه مخطئ، لكنه للأسف لا يدرك أنه يؤذي ابنه نفسياً ويضعف ثقته بنفسه.
 النقد القاسي ذاته يخرج من المدرسين الذين لا يمتلكون الصبر الكافي على تعليم الأطفال فيغضبون منهم، ويعاقبونهم على أقل غلطة ويقوم بإهانتهم أمام بقية التلاميذ مما يصيبهم بعقد نفسية فيكرهون المدرسة.
يمتص الطفل في سنواته الأولى كل التجارب النفسية السيئة التي يتعرض لها ويصدق انتقادات الكبار التي تظل تتردد في ذهنه، إلى أن تتطور وتتحول إلى ناقد داخلي يقوم بنفس الدور المُسيء الذي كان يقوم به الكبار في حياته.
بعض الناس يخلطون بين صوت الناقد الداخلي وصوت الضمير ويعتقدون أن انتقاد الانسان لنفسه علامة صحية تدل على امتلاكه نفس لوامة تحاسبه وترشده إلى الصحيح الطريق. لكن هناك فارق أساسي بين المفهومين، الضمير لا يتحدث مع الانسان طوال الوقت ولكنه يظهر في أوقات معينة ليحذره من ارتكاب الأخطاء ويذكره بقيمه واخلاقياته بينما الناقد الداخلي أكثر قسوة وسلبية وأكثر الحاحاً لأنه لا يرى في المرء سوى المساوئ والعيوب.
 الناقد الداخلي متلاعب، انه يوحي للإنسان انه على حق وأنه ينتقده من أجل مصلحته وأنه يريده أن يكون الأفضل ويريد حمايته من الفشل لكن الحقيقة انه يريد منه المستحيل، يريده أن يكون مثالياً وكاملاً في كل شيء، لذا فهو لا يتسامح معه في أي خطأ بل يظل يلومه ويعنفه ويهينه حتى يدفعه إلى كراهية ذاته وتدميرها.
مواجهة الناقد الذاتي والتخلص منه عملية صعبة خصوصا مع تقدم المرء في السن، ففي هذه المرحلة يكون صوت الناقد الداخلي استحوذ على تفكير المرء حتى يصبح جزء لا يتجزأ منه. لكن الأمر ليس مستحيلاً إذا امتلك المرء الرغبة وقرر أن يبذل مجهوداً حقيقا ًمن أجل تغيير نفسه وتغيير طريقة تعامله مع الأفكار السلبية عن طريق اتباع الارشادات التالية:
1- كن واعيا بالحوارات العقلية التي تدور في ذهنك

أولى خطوات التغيير هي أن تكون واعياُ بالكلام الذي يتردد داخل عقلك.
إذا شعرت بالحزن أو الإحباط فجأة بدون سبب أسأل نفسك: ماذا حدث؟، ما هي الفكرة التي مرت على رأسي وجعلتني بائساً؟
انتبه جيدا إلى العبارات التي تتردد في ذهنك واستمع إلى الكلام الذي يقوله لك الناقد الداخلي. تظاهر أنك تستمع إلى شخص غريب لا علاقة لك به ثم اكتب كلامه في ورقه.
  قم بقراءة كلام الناقد الداخلي ثم اطرح على نفسك ثلاثة أسئلة.
هل هذا الكلام حقيقي؟
 هل هو منطقي؟
 هل هو مفيد؟
إذا كانت الإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة لا، عليك أن تعتبر هذا الكلام هراء وتتجاهله كلياً.
عندما تحلل كلام الناقد سوف تكتشف انه يهول من أخطائك ويقلل من مميزاتك ويريد أن يشعرك بالذنب طوال الوقت، كما انه يميل إلى تكرار الكلام نفسه بنفس الأسلوب والنبرة بدون تغيير او ابتكار، الناقد الداخلي يشبه المسجل الذي يحتوي على اغنية واحدة سخيفة لا تتغير ولا يمل من ترديدها مرة تلو الأخرى حتى يدفعك أن تصدق أنها الحقيقة.
أوقف الناقد الداخلي عند حده
يعتقد الخبراء النفسيون أن أفضل طريقة لإيقاف الناقد الداخلي عند حده هي أن ترد على اتهاماته بعبارات أكثر منطقية وواقعية حتى تثبت له أنه مخطئ.
 بناء على تجربتي الشخصية، هذه الطريقة لا تنجح دائماً لأن الناقد الداخلي يعرفك جيدا، يعرف نقاط ضعفك ويعرف كيف يتلاعب بك حتى يهاجمك ويقنعك أنه على حق.
أرى أن أفضل أسلوب للرد على الناقد الداخلي هو أن تكون واعياً به عندما يظهر ثم تفصل نفسك عنه وتدرك أنه لا يعبر عنك ولا يمثلك.
 اسأل نفسك هل من الممكن أن أقبل أن يهينني أحد أصدقائي، بالطبع لا، إذن، لماذا أقبل إهانة نفسي بهذه الطريقة؟ ولماذا يجب أن أصدق كل فكرة تعبر بذهني؟
 كلما أعطيت الصوت الناقد الاهتمام كلما زاد تأثيره عليك، لذا عليك أن تدرب نفسك على تجاهله والتعامل معه باعتباره شخصية كرتونية سخيفة.
واجه الناقد الداخلي بالداعم الداخلي

كما يوجد داخل كل شخص ناقد داخلي سلبي، يوجد لديه داعم داخلي إيجابي.
 صوت الداعم الداخلي مثل صوت الأم الحنون المحبة، فهو يظهر في لحظات الفشل والإحباط ليواسي الانسان ويدعمه ويطمئنه أن كل شيء سيكون على ما يرام.
صوت الداعم الداخلي أقل حدة وأكثر رقة من صوت الناقد الداخلي, لذا لا يستطيع المرء دوماً الانتباه إليه.
لكي تزيد من تأثير الداعم الداخلي لابد أن تحيط نفسك بأشخاص ايجابيين داعمين لك وأن تبتعد عن مصادر الطاقة السلبية بقدر الإمكان.
 تحدث مع نفسك بنفس الود والاحترام الذي تتحدث به مع أصدقائك، واعلم أنك لن تستطيع أن تكون صديقا جيداً للآخرين إلا عندما تكون صديقا جيداً لنفسك.
 ردد لنفسك الكلام الايجابي الذي تحب أن يقوله الاخرون لك، ابحث في وسائل الاعلام وفي الكتب عن الأشخاص الملهمين والعظماء، واقرأ عنهم واستمع إلى أحاديثهم حتى تنطبع كلماتهم في ذهنك وتزيد من قوة الداعم الداخلي لديك.
اظهر لنفسك الحب بالأفعال، لا تكلف نفسك أكثر من وسعها، لا ترهق نفسك في العمل، اعتنِ بصحتك وطعامك، مارس الهوايات التي تحبها وافعل الأشياء التي تثير شغفك وترفع معنوياتك.
 الأهم من كل ذلك لابد تكون صبوراً مع نفسك وأن تدرك أن الأفكار السلبية التي يصدرها لك الناقد الداخلي لن تختفي تماما من عقلك في يوم وليلة، ولكن بإمكانك أن تقلل من تأثيرها بالتدريج بالوعي والمجهود والإصرار.







المصادر :

0 تعليقات