وقف شريف وسحر على مسافة قريبة من بعضهما أمام محطة الأتوبيس.
جريا وراء الميكروباص وانحشرا داخله مع بقية الناس.
جلسا متجاورين وراء السائق، التقت عيناه بعينيها، ألقى عليها تحية الصباح فردت عليه بصوت رقيق وابتسامة خجولة.
كان يعلم أن سحر هي الساكنة الجديدة وأنها مطلقة وتعيش مع طفلها الوحيد، وكانت تعلم أن شريفًا هو ابن صاحبة الشقة التي استأجرتها.
اكتشفا أنهما يعملان في نفس الحي عندما نزلا في نفس المحطة عند تقاطع الطرق.   ودعا بعضهما ثم اتجه شريف يمينًا واتجهت سحر يسارًا.
   تكرر نزولهما   في نفس الموعد وتكرر جلوسهما في نفس الميكروباص رغم اختلاف موعد عودة كل منهما للمنزل. 
 ظلت كلمة صباح الخير هي الخيط الوحيد الذي يصل بينهما حتى كاد الميكروباص أن ينحرف عن مساره.
اشتكي   لها من رعونة سائقي الميكروباصات، فأيدت كلامه. منذ تلك اللحظة انفتح باب الحوار بينهما ولم يٌغلق.
أحيانًا كانا يتشاركان الشكوى من العمل والزحام وظروف الحياة الصعبة، وأحيانًا كانا يصمتان ويكتفيان بالونس والرفقة اللطيفة التي يمنحها كل منهما للآخر في الطريق الطويل المزدحم.
في إحدى الأيام ذهبت سحر لتشتري لابنها الحلوى من محل الخردوات الذي يقع أمام العمارة، فرأت صاحب المحل يلقي عليها   ابتسامة غامضة مفعمة بالسخرية.
انزعجت عندما رأت نفس الابتسامة تظهر بأشكال مختلفة على وجوه أصحاب المحلات الأخرى والجيران.  
  فاض بها الكيل أخيرًا عندما قذفتها صالحة زوجة البواب بنفس الابتسامة الكريهة. صاحت فيها متسائلة:
-" بتبصيلي ليه كده؟”.
ارتبكت صالحة ثم تمتمت:
-  أصلي كنت عايزة أبارك لحضرتك لأني سمعت إنك هتتخطبي للأستاذ شريف “.
صٌعقت سحر من كلام صالحة   ولكن عندما فكرت في مغزاه استطاعت أن تفك شفرة الابتسامات الغامضة.
أخبرتها صالحة أن صاحب المغسلة رآها تسير بجوار شريف أمام محطة الأتوبيس فأخبر زوجته، والتي بدورها أخبرت زوجة صاحب السوبر ماركت وهلم جرا حتى انتشر الخبر بين سكان العمارة.
نهرتها سحر وطلبت منها أن تخبر سكان العمارة أنها ليست على علاقة بشريف، كل ما في الأمر أنها قابلته بالصدفة على محطة الأتوبيس.
 صعدت شقتها وهي تشعر بالخوف من توابع تلك الشائعة المٌغرضة.
 أصابها الفزع عندما سمعت جرس شقتها يصدر رنات متتابعة كأنه سارينة  سيارة الشرطة.
فتحت الباب لتجد أم شريف تقف أمامها وتلهبها بسوط نظراتها.
 وقبل أن تتمكن من الكلام قالت لها بلهجة أمره: " اعملي حسابك إن ده أخر شهر ليكي هنا ".
  تركتها وصعدت إلى شقتها مسرعة، ظلت سحر واقفة أمام باب الشقة المفتوح ومصابة بشلل لم تفق منه إلا عندما نادى عليها ابنها.
   شعرت بالندم لأن حواسها خذلتها ومنعتها أن تشرح لأم شريف حقيقة الأمر، ولكنها   بعد أن فكرت في الأمر مليًا أدركت أنها لم تكن لتصدقها حتى بقية الجيران لن يصدقوها لأن الناس لا يصدقون إلا ما يوافق أهوائهم.
 في صباح اليوم التالي ودعت سحر ابنها ثم وقفت تراقبه من شباك غرفتها وهو يركب أتوبيس المدرسة.
 لمحت شريفاً يخرج من العمارة ويعدو بخطوات نشيطة جادة، ظلت تحرسه بعينيها حتى توجه للشارع الرئيسي.
تركت الشباك وأخذت تتجول في شقتها وهي تضغط على أصابع يديها وتحملق في السقف بضيق.
أغراها ذهنها لكي تسلي وقتها بلعبة ماذا لو؟
 ماذا لو كانت اختلف المكان والتوقيت؟
ماذا لو اختلفت العادات والتقاليد؟
ماذا لو اختلف العصر والمجتمع؟
إجاباتها على هذه الأسئلة زادت من وطأة ألمها فندمت على استجابتها لهذه اللعبة السخيفة، غادرت الشقة بعد أن تعدت الساعة السابعة والربع ثم وقفت وحيدة في محطة الأتوبيس حتى جاء الميكروباص، تطلعت للرجل العجوز النائم الجالس بجوارها فتسلل إلى نفسها إحساس عميق بالخواء.
بعد أن انصرفت من عملها، وقفت كالعادة في تقاطع الطرق تنتظر الميكروباص.
سمعت بين أبواق السيارات صوتا مألوفا يناديها.
  جالت ببصرها في كل الاتجاهات فرأت شريفاً يقف أمامها في الناحية الأخرى.
ابتسم لها فبادلته الابتسام رغما عنها.
  تكلم ولكن ضجيج الشارع منع صوته من الوصول إليها، حاول أن يعبر لجهتها ولكن الإشارة الخضراء التي أُعطيت للسيارات أجبرته على التوقف.
 وجهت له سحر نظرة غائمة كأنها الشمس قبل الغروب ثم ودعته بإشارة من يديها، نادي عليها حتى تنتظره ولكنها لم تسمعه، جرت وراء الميكروباص، اختفت داخله فغمره شعور عميق بالحسرة بعد أن فٌتحت الإشارة للمشاة.








1 تعليقات

  1. المجتمع يجيد فقط أن يقتل إنسانيتنا..جميلة يا سمين :)

    ردحذف

رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته