أنت تعيش في أرض الخوف، تنام بعينين نصف مفتوحتين، منامك عبارة عن فيلم رعب لا يوجد فيه سوى الكوابيس، تستيقظ مذعوراً على صوت سارينة تعوي في الشارع، لا تستطيع أن تميز هل هي سارينة الإسعاف أم سارينة الشرطة، إنهما سيان فكلتاهما ستودي بك إلى حتفك المحتوم.
 صوت السارينة يُسرع دقات قلبك ويغذي إحساسك بالخطر.
تشعر أنك تركض لاهثاً رغم أنك لم تبرح مكانك.
 هناك كارثة قادمة تلوح في الأفق، هذا ما يقوله لك حدسك وهذا ما تقوله لك علامات التفسخ والانحدار التي تراها أمامك، الكارثة ستحل عليك وعلى كل من حولك قريباً وستدمر كل شيء.
 المشكلة أنك لا تعرف متى ستحل الكارثة، لذا كل يوم يبدو كأنه اليوم الأخير في حياتك قبل القيامة.
 أنت خائف والخوف يجري مثل الدماء في شرايينك، إنه صديقك الوحيد الذي فرضته عليك الأقدار.
 تربيت على الخوف واعتدت أن تتنفسه في هواء المدينة الرمادي، وأن تأكله في الطعام الفاسد، وأن تشربه في المياه الملوثة، وأن تراه في وجوه الناس المكفهرة ورؤوسهم المنحنية ونظراتهم الكابية، وأن تسمعه في همساتهم وابتساماتهم.
 تعلمت أن تخاف من كل شيء حتى من السعادة، إن ضحكت تقول خير اللهم ما اجعله خير، وإن أتاك خبر مفرح تخفيه عن الجميع وتنكره حتى عن نفسك لأنك تعلم أن السعادة ضيف عابر في هذه المدينة.
الخوف هو المحرك الأساسي لكل تصرفاتك.
كنت تذاكر خوفاً من الضرب، والآن تعمل خوفاً من البطالة والتشرد، تزوجت خوفاً من الوحدة، واعتدت أن تصمت خوفاً من عاقبة الكلام.
لكن اليوم لديك سبب إضافي للخوف، أنت تخاف لأنك تشعر أنك مذنب.
 مذنب في نظر نفسك لأنك فشلت في الهروب من هذه البقعة البائسة من الكون، ومذنب في نظر الآخرين لأن لا يزال داخلك بقايا إنسان ولم تتحول كلياً إلى عبد مطيع، لأن لديك بقايا من المشاعر والأحلام لم تتبخر بعد، لأنه لا يزال داخلك طفل صغير يلعب ويفكر ويتخيل ويتمرد، إنهم يريدون قتل كل شيء جميل ومختلف فيك، يريدونك حيواناً مدجناً.
سلاحك الوحيد للهروب منهم هو الصمت ولكن حتى صمتك يهددهم لأنه ليس صمت الراضي بل صمت العاجز.
أنت دائما في حاله يقظة دائمة، لديك عيون داخل مخك وأذنيك ويديك وهم أيضا لديهم ألاف العيون التي تراقب خلجاتك وسكناتك وحركاتك، إنهم يشعرون بالإحباط لأنهم لم يتوصلوا لاختراع وسيلة لمراقبة أفكارك لكنهم قادرين على قراءة السخط في ملامح وجهك التي شوهها البؤس، ينتظرون أن يفلت لسانك بعبارة اعتراضية حتى تقع في قبضتهم ويستمتعون بممارسة الشر المطلق عليك.
في أرض الخوف كل المفاهيم والقيم مقلوبة رأساً على عقب. الخيانة وطنية، السرقة شطارة، الاعتداء على الاخرين قوة، الشجاعة جنون، والطيبة سذاجة، القبح هو الجمال، التفكير المنطقي عبث، والحرية كلمة نابية. في أرض الخوف يسكن الأبرياء السجون ويسكن المجرمون القصور.
في أرض الخوف كل الناس يؤدون دور الشرطي والقاضي والجلاد.
الجميع يراقبون بعضهم البعض، أنت تراقب زميلك وهو بدوره يراقبك والمدير يراقبكم جميعا بينما هو مُراقب من رئيسه, وهكذا تتوسع دائرة الرقابة لتشمل الأطفال الرضع والشيوخ في دور المسنين، ولا يُعفى منها حتى الموتى في قبورهم.
أنت تخاف من كل شيء وتحذر من أتفه الأشياء، صوت صرير الباب ومواء القطط ونباح الكلاب والهمهمات الليلية يضج مضجعك، ولكن أكثر ما يخفيك هو السجن.
أنت على استعداد لكي تفعل أي شيء حتى تتفادى السجن. تفرح لأن يوم جديد مر عليك بدون أن تتعرض للمساءلة أو التفتيش أو المضايقة، لكن فرحتك تتلاشى عند الفجر لأنك تعلم أنه وقتهم المفضل للزيارة.
تشعر بالانتصار لأنك استطعت الإفلات من السجن ولكنك لا تدرك أنك بالفعل تعيش فيه منذ أن ولدت على هذه الأرض.
  الفرق بينك وبين المحبوسين داخل الزنازين هو أن سجنك كبير، حدوده غير معروفة وقضبانه غير مرئية.
سجانك يعيش في برج عاجي لكنه يراك ويسمعك ويستطيع التحكم في حياتك.  
لقد تعودت على حياة السجن وتعودت على وجود السجان وصرت تحبه وتشعر بالأمان عندما ترى صوره ماثلة أمامك في كل مكان، وإن وقعت الكارثة وجاء الطافون واختفى السجان أو مات وحصلت على حريتك، لن تفرح بل سيطاردك نوع جديد من الخوف، الخوف من الحرية والاختيار.
ستعجز عن استخدام حريتك، فتلجأ إلى سجان آخر لكي يردعك ويؤدبك ويحميك مقابل أن يمنحك الأمان، وهكذا تستمر الحياة في أرض الخوف.

0 تعليقات