الكتابة بالنسبة للكاتب الحقيقي ليست مهنة, وليست هواية, وليست مجرد وسيلة لقضاء الوقت أو استعراض الثقافة.
إنها حب وشغف عظيم , إنها الشيء الذي تدور حوله حياة الكاتب والعدسة الذي يرى العالم من خلالها, إنها الوسيلة التي يستخدمها للتعبير عن نفسه وأفكاره وأراءه , لذلك  تجد أغلب الأدباء على استعداد لبذل الغالي والنفيس وقضاء ساعات طويلة في مكتب صغير أمام الورق أو الكمبيوتر يبحثون ويكتبون وينقحون ويعيدون صياغة الكلمات عشرات المرات حتى يستطيعون تكوين  النص الأدبي الذي يحلمون به.الكتابة هي الشعلة الداخلية التي تجعل الكاتب يستمر في الحياة بحماس ويتحمل مآسيها وقبحها ولكن ماذا لو انطفأت هذه الشعلة فجأة ؟ . حينئذ يصاب الكاتب بالخرس الأدبي فيعجز تماما عن الكتابة أو الوصول إلى أي فكرة جديدة. الخرس الأدبي الذي أتحدث عنه مختلف عن  حبسة الكاتب أو
Writer’s block هذه المشكلة تحدثت عنها من قبل باستفاضة في مقال سابق يمكنكم قراءته من هنا. المصاب بحبسة الكاتب لا يزال يحتفظ بشغفه بالكتابة ولا يزال يمتلك  أفكارا كثيرة  ولكنه لا يعرف كيفية كتابتها لأنها مصاب بالإرهاق أو التعب أو بالخوف من رد فعل الآخرين على ما يكتبه, أما المصاب بالخرس الأدبي فإن حالته أصعب وأشد لأنه فقد الرغبة في الكتابة من الأساس.رغم أن الخرس الأدبي قد يهبط على الكاتب بشكل مفاجئ لكن أسبابه ودوافعه ليست مفاجئة أو سطحية. انه يأتي نتيجة أسباب نفسية معقدة, فالعقبات التي تقف أمام الأديب خاصة عندما يكون في بداية مشواره كثيرة وصعبة وقد تؤدي به إلى الإصابة باليأس والاكتئاب.  أكبر هذه العقبات هي العقبة المادية, فالكتابة الأدبية خاصة في عالمنا العربي من الصعب جدا أن تتحول إلى مهنة أو مصدر للزرق بالنسبة للكاتب, لذلك يجد الكاتب نفسه  في صراع مع أهله الذين  يستخفون بما يقوم به, ويرون أن الكتابة الأدبية وسيلة للتسلية وقضاء وقت الفراغ ولكنها ليست نشاطا مهما أو ضروريا طالما أنها لا تدر عليه أي ربح.
  النظرة المستهينة بقيمة الأدب تحبط الكاتب وتجعله يدخل في معركة مع من حوله لكي يثبت قيمة وأهمية ما يكتبه للناس, فيصطدم بعقبات أخرى أكبر وأصعب.
عقبة النشر الذي يتحكم فيه حفنة من التجار الراغبين في الربح السريع بغض النظر عن المضمون, وعقبة الوصول إلى الناس في مجتمع يكره القراءة والمعرفة ويهرب منها إلى كل وسائل الترفيه والإلهاء التي  تغيب العقل وتخدره, وعقبة التصريح بالرأي في ظل نظام استبدادي غاشم لا يرغب إلى الاستماع  إلى أصوات التصفيق والتأييد الأعمى ولا يتوانى عن توقيع أشد العقوبات على أصحاب العقول الحرة والآراء الصادقة.
يشعر الكاتب بالفشل والإحباط لأنه يكتب لمن لا يقرأ ويتحدث مع من لا يستمع ويشحذ عقله ويبدد طاقته ومجهوده من أجل لا شيء . يشعر وكأن المجتمع بأكمله اتفق على أن يتجاهله أو أن يتآمر عليه لكي يخرس صوته ويمنعه من التعبير عن نفسه وقول كلمة الحق. من الطبيعي أن يتحول هذا الإحباط إلى يأس عميق , يأس من أن تصل كلماته إلى الناس, ويأس من أن يجد من  يتفاعل معه ويدعمه ويقدر ما يقوم به.بالتدريج يتسلل إليه الشك في نفسه ويبدأ يفقد الثقة في موهبته وفي قيمة ما يكتبه.
إذا كان موهوبا حقا فلماذا تنغلق كل الأبواب في وجهه ولماذا لم يجد له جمهورا حتى الآن ؟ , وإذا كانت الأفكار التي تمر برأسه جديدة ومميزة فلماذا لم يتوصل إليها أحد من قبله ؟, من المؤكد أنه يتوهم وجود الموهبة لديه لكنه هو في الحقيقة إنسان عادي بالكاد يستطيع أن يكتب عبارات إنشائية جذابة. وحتى إن كان يمتلك الموهبة فما فائدة هذه الموهبة في مجتمع جاهل ومغيب ؟ , لقد أنفق كثير من المفكرين والأدباء وقتهم وجهدهم في دق نواقيس الخطر وتنيبه المجتمع إلى أمراضه وعيوبه ولكن لا أحد التفت إلى ما كتبوه فتدهور المجتمع وانحدر بصورة أكبر, مما  يؤكد أن كتاباتهم ضاعت هباءً لأنها لم تصل إلى الأغلبية ولم تؤثر فيهم . يبدأ الكاتب في فقدان  إيمانه بقيمة الكتابة و يشعر أنها نشاط بلا هدف أو معنى أو جدوى , إنها مجرد صرخة يطلقها الكاتب في مجتمع أصم , إنها نشاط عبثي لا يهدف إلى شيء سوى التنفيس وإخراج طاقات الغضب المكبوتة داخل الكاتب ولكنها بالتأكيد لا تُؤدي نتيجة إيجابية في المجتمع. إنها مجرد حبر يهدر فوق الورق ثم يستعمله الناس بعد حين في لف الطعام أو حشو الحقائب الجديدة أو وضع القمامة.
كل هذه الاستنتاجات المخيفة والكئيبة تجعل الكتابة تفقد سحرها وقوتها ومتعتها في نفس الكاتب, فتتعثر الأفكار عن التشكل في عقله وتتوقف ربة الإلهام عن زيارته, تتحول الكتابة من نشاط مبهج وممتع بالنسبة له إلى نشاط ممل ومتعب وعبثي, تتحول النعمة التي أعطاها الله له إلى نقمة ولعنة تزعجه وتقض مضجعه.
يستيقظ الكاتب في يوم من الأيام ليجد عقله فارغا من أي أفكار أو رؤى أو أحلام , ربما لا يزال قادرا على كتابة جملة مفيدة ولكنه لم يعد قادرا على  ضخ الحياة في تلك الجمل. لقد فقد الكاتب قدراته الإبداعية وأصيب بالخرس الأدبي وصار إنسانا عاديا مثل بقية الناس.الإصابة بالخرس الأدبي أمر مؤلم لأنه يجعل الكاتب يفقد جزء هام من هويته وسر وجوده فلا يصبح أمامه اختيار سوى التوقف عن الكتابة تماما.هذا الخرس الأدبي قد يكون حالة نفسية عابرة وتنتهي إذا تغيرت ظروف الكاتب وأحواله ووجد مقومات الدعم والتشجيع التي تعيد له ثقته بنفسه وبأهمية كتاباته أو إذا صادفت كتاباته نجاحا مفاجئا.
الأمر العجيب  أن النجاح المفاجئ  والكبير قد يؤدي إلى  إصابة الكاتب بالخرس الأدبي لأنه يشعر أنه قد بلغ القمة بهذا النجاح وأنه لا يوجد المزيد لتحقيقه .في تاريخ الأدب نجد أدباء حققوا نجاحا تجاريا وفنيا كبيرا في أول أعمالهم الأديبة منهم الأمريكية هاربر لي صاحبة رواية لا تقتل طائرا بريئا التي صدرت في الخمسينات من القرن الماضي وحققت نجاحا ساحقا وحصلت على العديد من الجوائز الأدبية ودخلت قائمة كلاسيكيات الأدب العالمي, ولكن هذا النجاح  بدلا من أن يدفعها إلى تقديم المزيد جعلها تصاب بالتوتر والخوف من  عدم القدرة على تكرار النجاح نفسه,  فتوقفت عن الكتابة للأبد واكتفت بالتأثير الاستثنائي الذي حققته روايتها الأولى.
النجاح مثل الفشل كليهما يربك ويصدم ويغير من تركيبة الإنسان النفسية إذا لم يكن  مستعدا له والحل هو أن يتعلم الكاتب كيف يحافظ على اتزانه النفسي وكيف يحمي نفسه من التأثيرات السلبية التي تقع عليه نتيجة الإحباطات والرفض والتجاهل الذي يعد جزء لا يتجرأ من مسيرة الكاتب, وكيف يتعامل بمرونة مع العقبات التي تواجهه فلا يدع أراء الآخرين تضعف ثقته بنفسه وتخنق صوته,  ويقرر أن يحافظ على شعلة الإبداع بداخله مهما كانت الظروف لأن هذه الشعلة هي الشيء الوحيد الذي يمنحه الدفء ويعطي لحياته طعم ومعنى.

0 تعليقات