1-
اسمي باسل هاشم عبد المنعم عبد الله الأسيوطي، ولدت في القاهرة في الأول من سبتمبر عام 1984، وتوفيت في الرابع والعشرين من يوليو عام 2010.
يعتقد بعض الناس أن الإنسان يشعر بدنو أجله قبل موعد رحيله من الحياة بأربعين يومًا، ولكني لم أستقبل أي إشارة أو علامة تدل على أن هذا اليوم الصيفي الممل سيكون أخر أيام حياتي.
استيقظت في الظهيرة كعادتي، خرجت من غرفة نومي، مشيت في الصالة بخطوات متكاسلة، ألقيت نظرة سريعة على حجرات الشقة الخالية فداهمني إحساس موجع بالوحدة.
تخيلت منظر أمي وزوجها مراد وهما مستمتعان بالجلوس على الشاطئ في الساحل الشمالي، ومتابعة أخي رامي وهو يسبح في البحر.
 جزء مني كان يود أن يكون معهم، ولكن كبريائي كان راضيًا لأنني تركتهم بالأمس وعدت إلى القاهرة.
بدأت رحلة النهاية عندما أخبرت أمي أن مصروفي أوشك على النفاد.
رأيت عينيها البنيتين تترددان في مقلتيها، قلت لها متوسلًا:” مش عايز أكتر من خمسين جنية ".  سطع   العطف على ملامحها السمحة وبشرتني أنها ستدخل حجرة النوم لكي تحضر لي النقود.
رفع مراد بصره عن الجريدة التي كان يحملها بين يديه ورمقني باستياء، شعرت بالقلق عندما رأيته يدخل الحجرة وراء أمي ويغلق الباب، بعد دقائق خرجت أمي من الحجرة مع مراد، ثم قالت لي بنبرة صارمة:
- أنا مش هقدر اديلك الفلوس لأني عارفة إنك هتصرفها بسرعة وهترجع تطلب مني  تاني  بكره  ، انت  ضيعت فلوس أبوك بسبب تبذيرك، حاول تدبر نفسك بالمصروف  اللي معاك علشان  تتعلم الادخار.
رأيت مرادًا   يومئ برأسه في صمت، تملكني الغيظ منه، أردت أن أواجهه وأتهمه بالإيقاع بيني وبين أمي لكني تمكنت من السيطرة على أعصابي في أخر لحظة، المواجهة لن تأتي بأي فائدة ولنتغير الواقع، مراد يملك كل شيء، يملك شقة الساحل الشمالي ويملك النقود التي أنفقها حتى عقل أمي صار ملكًا له  من زمن طويل.
 من حق مراد أن يتحكم في ممتلكاته كما يشاء، ومن حقي أنا أيضًا أن أتحرر من سجنه، وأعود إلى المكان الوحيد الذي لا يزال يحمل اسم أبي.
   بدا الانزعاج على ملامح أمي عندما أخبرتها أنني قررت العودة إلى القاهرة لأنني مللت من الحياة في الساحل الشمالي، كادت أن تطلب مني البقاء ولكن مرادا نصحها أن تتركني أرحل ظنا منه أن رغبتي في الرحيل ما هي إلا حيلة للتلاعب بها والضغط عليها حتى تعطيني النقود.
 رماني بنظرة استهزاء وقال لي قبل أن أرحل: " بكره هترجع تاني  لما تزهق من القعدة لوحدك".
خرجت من الشقة حاملًا حقيبتي على ظهري منكساً رأسي شاعرًا أنني ضيف غير مرغوب في وجوده ، توجهت إلى سيارتي وقبل أن أفتح بابها  رفعت رأسي لأعلى ، وجدت أمي تقف في الشرفة وتتابعني بنظرات عطوفة حزينة ، ضحكت على فشلها في تمثيل القسوة، بدا عليها الحرج عندما رأتني أنظر إليها ، لوحت لها بيدي مودعًا ، لكنها لم تلاحظني لأنها  أشاحت ببصرها  بعيدًا عني  وصوبته على الشاطئ.
***
وضعت طعام الإفطار على المنضدة، ضغطت على زر تشغيل الكمبيوتر، فوجئت أنه لا يعمل، فصلت عنه الكهرباء، عاودت تشغيله ولكنه ظل مصرًا على صمته.
تطلعت إلى شاشته السوداء بإحباط، فككت أسلاكه ثم غيرت ملابسي على عجل، أوصلته إلى مركز تصليح الحاسبات الذي يقع على بعد شارعين من المنزل ، وعدني المهندس رمزي مدير المركز أنه سينتهي من إصلاحه اليوم. خرجت من المكتب وأنا أشعر بالحيرة، الألعاب والموسيقى والأفلام المفضلة لدي مجتمعة داخل هذا الصندوق الصغير فكيف سأقضي وقتي بدونه؟.
دسست يدي في جيبي وأخرجت العشرين جنيهًا التي تبقت لدي من مصروفي.
كان أمامي اختيارين: أن أوفر نقودي وأعود إلى المنزل أو أن أقضي على الملل الذي بدأ يزحف على نفسي بمجرد أن أدركت أنني سأعيش بدون كمبيوتر اليوم.
ولأن وقت تعلم الادخار فات بالنسبة لي انطلقت بدون تردد   إلى محل " البلاي ستشين " الذي يقع في أول الشارع.
رحب بي الأستاذ مرعي صاحب المحل ممازحًا :" يارب الكمبيوتر بتاعك  يعطل على طول علشان تشرفني".
كان المحل خاليًا إلا من ثلاثة أولاد كانوا يلعبون بجوار بعضهم في ركن بعيد. جلست أمام أكبر جهاز في المحل، انغمست سريعًا في تلك اللعبة التي كنت أقوم فيها بدور شرطي، كانت مهمتي أن أطارد مجموعة من المجرمين في الشوارع والأزقة حتى أقبض عليهم، نجحت خلال دقائق في القبض على أول مجرم، أحرزت مئة نقطة، ازداد حماسي واندماجي في اللعبة حتى انفصلت عن العالم الخارجي تمامًا.
فجأة شعرت بيدٍ ثقيلة تسقط فوق كتفي الأيمن وتنتزعني من العالم الافتراضي.
هززت كتفي حتى أتخلص من تلك اليد، ولكنني فوجئت بيد أخرى أثقل منها تسقط فوق  كتفي الأيسر.
 سمعت صوتًا غليظًا مجسمًا كأنه خارج من سماعات عالية الجودة يهتف " انت باسل هاشم ؟" ، استدرت لكي أتعرف على  صاحب الصوت، رأيت  رجلًا  عملاقًا  فارع الطول  وجهه مفلطح، عينيه  سوداوين واسعتين وبشرته البيضاء تشوهها الجروح والندوب ، بدا لي كأنه كتلة من العضلات المفتولة و تولد لها جسدًا ، أرسل نحوي  نظرات مخيفة  أحدثت زلزالًا  في جسدي بقوة  ستة ريختر ، أمرني بالوقوف فصحت في وجهه متسائلًا :
" انت مين وعايز إيه ؟"
رد علي بنبرة ساخرة : " أنا عملك الأسود وعايز أخلص عليك  ".
  شدني من ياقة قميصي ثم كور قبضة يده وصوبها إلى أنفي، اختل توازني وسقطت على الكرسي وأنا أتأوه، حملني من على الكرسي وقذفني على المنضدة التي كان يجلس أمامها الأستاذ مرعي كأنني كرة صغيرة من البلاستيك.
تضاعف ألمي وارتفع صياحي حتى توقف الأولاد عن اللعب وتطلعوا نحوي في هلع.
صاح الأستاذ مرعي في الرجل " أرجوك كفاية ".
سأله الرجل مزمجرًا " تحب أروقك زيه ؟" .
انكمش الأستاذ مرعي في مكانه خوفًا ثم أخفض من نبرة صوته قائلًا : "اطلع بره لو عايز تتخانق معاه ، أنا مش عايز دوشة ومشاكل هنا".
  حملني الرجل إلى الخارج بين ذراعيه كما يحمل الحيوان المفترس الفريسة بين فكيه، توسلت إليه حتى يشرح لي سبب اعتدائه علي، كانت إجابته ضربة قوية على رأسي أسقطتني على أسفلت الشارع المشبع بسخونة شمس يوليو الحامية.
رأيت وأنا مستلقي على الأرض أقدام كثيرة تتجمع وتصطف بجواري، اكتشفت أنني أعرف أغلب أصحابها. هذا عم عنتر حارس العمارة وأولاده الثلاثة، وهذا سعد سائس الجراج، وهذا وائل وحاتم وعبد الرحمن جيراني وأصدقاء الطفولة، وهذا عم عبد الله صاحب متجر الخردوات الذي كنت اشتري منه الحلوى وأنا طفل والسجائر وأنا كبير، هذا الأستاذ مسعود صاحب شركة السياحة التي تقع تحت العمارة ، وهذا الأستاذ بيومي صاحب المغسلة التي تقع في العمارة المجاورة.
كلهم يعرفوني جيدًا ومع ذلك كانوا يتطلعون نحوي كأنهم يروني لأول مرة في حياتهم، انفتحت أفواههم وشخصت أبصارهم وهم يتابعون الركلات والضربات العنيفة تتساقط على أنفي ووجهي ورأسي وضلوعي كأنهم يشاهدون مباراة على قناة المصارعة الحرة.  لم أفهم سبب اهتمامهم بمشاهدة تلك المباراة، ألا يدركون أن نتيجتها محسومة؟
تألمت في تلك اللحظات أكثر مما تألمت في عمري القصير كله، تألمت حتى شعرت أن الآم البشر كلها اجتمعت في جسدي النحيل، شعرت أن عظامي تنكسر وتتفتت إلى قطع صغيرة، بقيت متأرجحًا بين اليقظة والغيبوبة، لم أعد قادرا على رؤية أي شيء، فكل شيء أمامي صار مغطى بطبقة كثيفة من الضباب.
  صوتي كان سلاحي الوحيد والأخير للدفاع عن نفسي، صرخت، استغثت، توسلت،
:" الحقوني أنا معلمتش حاجة غلط ".
 صوب الرجل قبضته إلى فكي حتى يخرسني، شعرت أن أسناني تنخلع من مكانها وتعوم في أنهار من الدماء.
سمعت غابة من الأصوات المتداخلة ترتفع وتتحول إلى صياح وصراخ وعويل،
تناهي إلى سمعي صوت رجل يهتف:" نادوا على عمه بسرعة ".
 أخذ الرجل يضرب رأسي بالأرض عدة مرات، اجتاحتني رعشة عنيفة  واشتعل جسدي كأنه كتلة من الجمر ، أغمضت عيني و تكورت على نفسي  في وضع الجنين الذي كنت عليه  قبل أن  أخرج إلى هذا العالم ، سمعت دقات قلبي تطن في أذني  كأنها سرب من النحل  ،فجأة  توقف  الضرب وتوقف الألم وتوقفت المعاناة واضمحلت الأصوات حتى تلاشت وعم الصمت التام  ،واستحال كل شيء أمامي إلى عتمة بالغة  كأنني أجلس في حجرة انقطعت عنها  الكهرباء.



لقراءة الرواية كاملة ادخل على هذا الرابط 

0 تعليقات