لم يعرف أهل المدينة الصغيرة من أين جاء العجوز الأخرس، وجدوه في أحد الصباحات جالساً على الرصيف مرتدياً بذلة رمادية رثة وتاركاً شعره الفضي الكثيف للرياح لتعبث به.
 كان يحمل بين يديه باقات متنوعة من زهور البنفسج والورد والنرجس والفل والبانسيه.
 كلما مر أمامه طفل كان يقف ويقترب منه ليٌحييه بابتسامة حزينة ويعطيه زهرة. كان الأطفال في البداية يمتنعون عن أخذ الزهور منه لأنهم ظنوا أنه يريد بيعها لهم، لكنه كان يٌربت على أكتافهم مطمئنًا ثم يدٌسها في يديهم ويمضي.
تدريجياً، بدأ أطفال المدينة يعتادون على رؤيته ويتسابقون على تلقي الزهور منه كل صباح، بعضهم كان يحاول الحصول على أكثر من زهرة لكنه كان يرفض بإشارة من يده، ويصر على إعطاء كل طفل زهرة واحدة فقط حتى يتسنى له توزيع بقية الزهور على كل الأطفال.
حاول الأطفال المشاغبون تقطيع الزهور لكنه كان يردعهم بيديه ثم يضم الزهور بين ذراعيه ويشير إليهم بأصابعه ليعلمهم كيف يحملون الزهور برفق لأنها أرق من البشر، وكيف يشعرون بنبضها لأنها كائن حي مثلهم تمامًا، وكيف يملئون عيونهم بألوانها الخلابة ويملئون أنوفهم بأريجها الساحر.
 كان الأطفال يفهمون بسهولة ماذا يريد أن يقول من نظرة عينيه الحكيمتين اللتين  تترقرق داخلهما الدموع حتى أطلقوا عليه لقب أبو الزهور.
كان يطل كل يوم مع شروق الشمس ويختفي مع غروبها، ومع الوقت صار مكان جلوسه هو مكان تجمع كثير من أطفال المدينة الذين كانوا يحرصون على إلقاء تحية الصباح عليه، والحصول على زهرة جميلة منه لتمنحهم الأمل وتحفزهم لبدء يوم جديد.
استغرب أهل المدينة عندما وجدوه يرفض أن يعطي زهوره للكبار، وأصر على جعلها هدية حصرية للأطفال فقط.
بدأوا يتساءلون عن هويته، في البداية ظنوه شحاذاً من ملابسه البالية ونظراته الزائغة، حاولوا مساعدته بالمال لكنه كان يرفض أموالهم بحزم.
 عندما راقبوا تحركاته اكتشفوا أنه كان يشتري تلك الزهور من أكبر محل لبيع الزهور في المدينة.
تساءلوا من أين أتى بالمال لشراء الزهور يومياً وتوزيعها مجاناً على الأطفال؟
 اعتقدوا أنه مختل عقلياً، لكن هدوؤه وحنانه المفرط في التعامل مع الأطفال هدأ من مخاوفهم وجعلهم يطمئنون له فتركوا أطفالهم يأخذون الزهور منه.  
صار المكان الذي يجلس فيه مكان تجمع للأطفال الذين يلعبون بالزهور حوله، بعض الأطفال كانوا يجلسون بجواره ليشاركوه تأمل الزهور ويشاهدون حبات الندى المتساقطة عليها في صمت. انضم أطفال الأغنياء مع أطفال الفقراء ليلعبوا أمامه بالزهور كأنهم أخوة.
بعض أغنياء المدينة أزعجهم أن يلعب أطفالهم مع الفقراء فحاولوا منعهم من الذهاب إلى هذا الرجل، وعندما فشلوا قرروا أن يٌبلغوا عنه البوليس بتهمة التشرد.
كان يوم القبض على أبي الزهور هو أتعس يوم في حياة أطفال المدينة، لم يستوعبوا كيف يمكن أن يكون مصدر الجمال في حياتهم مجرما!
 استجوب الضباط الرجل عن سبب جلوسه الدائم في الشارع مع الزهور، رسم لهم بيديه علامة الحب ثم قلد حركات الأطفال، ففهموا أنه يحب الأطفال ويحب إهداء الزهور إليهم.
اندهشوا عندما حصلوا على بطاقته الشخصية واكتشفوا أنه يسكن في مدينة أخرى ويعمل في تجارة الاخشاب، سألوه عن سبب مجيئه لهذه المدينة فهز كتفيه رافضاً الإجابة.
صمته استفزهم فأحضروا خبير في لغة الإشارة ليطرح عليه نفس الأسئلة لكنه رفض التجاوب معه.
عاقبوه على صمته بأن ألقوا به في زنزانة ضيقة مع اللصوص وتجار المخدرات فزاده الحبس حزنا وصمتاً.
 بعد يوم، جاءهم شاب ليخبرهم أنه ابن أخيه وتوسل إليهم حتى يفرجوا عنه، بعد أن روى لهم قصة حياة عمه.
كان الرجل يعمل في تجارة الأخشاب ولقد بنى نفسه من الصفر وأخذ يكدح لسنوات طويلة حتى ينتشل نفسه من الفقر، وبعد أن اقترب من سن الكهولة صار قادراً على الزواج فتزوج سيدة فاضلة وأنجب منها ولداً واحداً.
أحب الرجل ابنه بجنون وكان يريد أن يضمن له مستقبلا آمنا، لذا تعهد على نفسه بمواصلة العمل وتنمية تجارته لكي يكون ابنه جاهزًا لاستلامها عندما يكبر.
صار مدمنًا على عمله يقضي فيه طوال اليوم حتى أيام العطلات،
لم يكن يعود لمنزله إلا للنوم، ولم يكن يجلس مع زوجته وابنه إلا على فترات متباعدة.
 زوجته وابنه كان يشتاقان إليهما، فكان يعدهما بقضاء إجازة طويلة معهما لكن مشاكله في العمل التي لا تنتهي كانت تمنعه من الإيفاء بوعده.
في أحد الأيام سافرت زوجته إلى هذه المدينة بصحبة ابنه لكي تزور إحدى قريباتها، فاصطدمت السيارة التي كانت تقلهما بعربة نقل كبرى وأسفرت عن وفاتهما.
الصدمة التي ألمت بالرجل عندما علم بوفاة زوجته وابنه أفقدته النطق إلى الأبد.
 صار يهيم في الشوارع بلا هدف وهو يذرف دموع الندم والحسرة، صار عاجزاً عن التفكير والعمل، تحول حبه لعمله إلى مقت شديد، وبات يؤمن أنه السبب في هدم حياته الأسرية.
 باع شركته ثم ترك منزله وجاء ليسكن في هذه المدينة التي ضمت رفات أًحب الناس إليه. قرر أن يتقرب من روح ابنه الذي كان يعشق الزهور وكان يحب أن يملأ البيت بها، فصار يشتري الزهور ويوزعها مجانًا على الأطفال الذين يماثلون ابنه في السن.
رغم أن القصة التي رواها ابن شقيق العجوز بدت مقنعة إلا أن الضباط لم يوافقوا على إطلاق سراح العجوز لأنهم خافوا أن يعود الرجل لتوزيع الزهور مجددًا على الأطفال.
رأوا أن اجتماع الأطفال حوله خطراً على الأمن وخافوا أن يدفعه اشتياقه الجنوني لابنه لاختطاف أحد الأطفال والهروب معه، فقرروا تحويله إلى مصحة الامراض العقلية.
 قبل أن يتم تنفيذ القرار وجده الحراس ميتاً في الزنزانة بعد أن تعرض للضرب المبرح من أحد المساجين. وبينما كان الحراس يحملون جثته فوجئوا بسرب من الثعابين الضخمة تتسلل إلى القسم لتهاجم الضباط والحراس.
 قبل أن يتمكنوا من الفرار منها كانت سمومها تسللت إلى أجسادهم لتقتلهم.
 زحفت الثعابين على الزنازين لتقضي على المساجين بلدغاتها ثم اختفت كأنها لم تكن.
 ساد الهلع في المدينة بعد ان انتشرت قصة الثعابين وصار قسم الشرطة أشبه ببيت الاشباح المهجور لدرجة أن الناس باتوا يخشون المرور بجواره.
بعض الناس اعتقدوا أن العجوز الاخرس هو من أدخل الثعابين لكي ينتقم من الضباط الذين سجنوه ظلمًا، بينما اعتقد آخرون أن الرجل برئ وأن هجوم الثعابين تم بمحض المصادفة.
 تم دفن العجوز على يد ابن أخيه حسب وصيته في المدينة بجوار زوجته وابنه.
  ظلت قصته الحزينة وسيرته الطيبة ماثلة في أذهان الأطفال الذين عشقوا الزهور بسببه، وبعد وفاته أصبحوا يزرعونها في بيوتهم.
 كبر الأطفال الذين كانوا يلعبون حوله وصاروا أصدقاء ثم اتفقوا أن يُخدلوا ذكراه.
اشترى أحدهم قطعة أرض في الشارع الذي كان يجلس فيه العجوز، وشيد فيها حديقة واسعة، وزرع فيها أفضل أنواع الأشجار والزهور والنباتات العطرية وأطلق عليها اسم" حديقة أبو الزهور".

1 تعليقات

رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته