تخيل أنك تعيش في حجرة ضيقة لا تتجاوز مساحتها الأمتار القليلة، إذا حاولت أن ترفع رأسك تصطدم بسقفها المنخفض، إذا حاولت أن تمد ذراعيك أو قدميك تصطدم بجدرانها السميكة التي تطرحك أرضاً، إذا حاولت مغادرتها ستفشل لأن كل الحجرات الأخرى ضيقها مثلها، لا بديل أمامك سوى أن تعيش فيها برأس منحني وجسد متكور يتحرك بحذر وخوف حتى لا تصطدم بأي شيء.
هذا السيناريو الكابوسي يصف حياة كل شخص يحاول الإبداع في العالم العربي، انه لا يصطدم فقط بالسقف المنخفض لحرية التعبير بل يصطدم أيضاً بجدران الممنوعات والمقدسات والمحرمات التي تجهض إبداعه في مهده.
الثالوث الأكبر للممنوعات في العالم العربي هو السياسة والدين والجنس وهي المكونات الأساسية التي تتفرع منها كل الهواجس والقضايا التي تهم الناس.  يتفرع من هذا الثالوث قائمة طويلة من الممنوعات.
يحاول المبدع العربي أن يتحايل على هذه الممنوعات ويتعامل معها بحرص وحذر شديد ويحاول التطرق إليها بشكل غير مباشر عن طريق الرمز أو المجاز.
المشكلة أنه يصطدم المرة بنوع أخطر من الرقابة ألا وهو الرقابة الاجتماعية.
مجتمعاتنا التي تدعي التدين والمحافظة مصابة بالجمود الفكري وجنون الارتياب، فالعرب ينظرون للفن بعين الاحتقار، وينظرون للكتاب والمبدعين بعين الشك والتربص.
 إنهم يسارعون بإسكات أي شخص تسول له نفسه محاولة تجاوز صندوق الأفكار الضيق، وتقديم رؤية نقدية للواقع بدعوى الخوف على سمعة البلد أو على عادات وتقاليد المجتمع.
 الحساسية المفرطة من النقد والقمع الوحشي الذي يُمارس على أي مبدع يحاول الإشارة إلى أمراض المجتمع أو يكشف نواقصه يؤكد أن من يسعون لتكميم الأفواه يعلمون في قرارة أنفسهم أن المنتقدين على حق، وأن المجتمع على وشك الانهيار من فرط الفساد، لكنهم مستفيدون من بقاء الوضع على ما هو عليه، ولا يريدون أن يستيقظ الشعب من غفلته.
الأمر المثير للسخرية أن الأشخاص الذين يرفضون أي عمل فني يطرح أسئلة ويناقش المسلمات ويريدون من المبدعين الالتزام بالعادات والتقاليد والضوابط الأخلاقية الصارمة هم أنفسهم من يتهمون المبدعين العرب بفقر الخيال واللجوء إلى التقليد والنسخ في أعمالهم الفنية، ويعقدون مقارنات عبثية بينهم وبين نظرائهم العباقرة في الغرب.
 إنهم ينسون أو يتناسون أن الإبداع الغربي نتاج مجتمع يؤمن بحرية الفكر والكلام، مجتمع يعلم أطفاله التفكير النقدي ويشجعهم على إعمال عقولهم والمناقشة والبحث وطرح الأسئلة مما يؤدي إلى توسيع مداركهم.
 أما في في المجتمعات العربية فإن الأطفال يتربون على السمع والطاعة العمياء، ويتعلمون التلقين وحفظ الإجابة النموذجية لأسئلة الامتحانات، السير بجوار الحائط مع القطيع.
 كل هذه القيم والممارسات تنتج عقول خاملة، عقول يسكنها الخوف، عقول عاجزة عن التفكير المنطقي السليم ناهيك عن الإبداع.
من الطبيعي أن تكون النتيجة انيميا ابداعية، تفاهة بلا حدود وتقليد وإعادة تدوير لأفكار قديمة أو سرقة واستنساخ ونقل لأفكار اجنبية. حتى الإبداعات العربية العظيمة التي استطاعت الإفلات من قبضة السلطة وسطوة المجتمع تفوح منها رائحة القهر والقمع، رائحة السجن والغرف المكتومة.
 نحن نريد أن نحلق في السماء، ولكننا للأسف نعيش في سجن كبير ليس مسموح لنا فيه سوى بالزحف على الأرض حتى نستطيع البقاء على قيد الحياة.
لا أظن أن هذا الوضع سوف يتغير طالما استمرت السلطة والمجتمع في النظر إلى حرية الفكر والتعبير باعتبارهما خطر يهدد أمن وسلامة المجتمع.

0 تعليقات