كان عمرو يقف في نافذة غرفته الصغيرة يراقب الشارع المزدحم بالمارة والسيارات.
سمع صوت ارتطام شيء في العمارة المقابلة له فأجال عينيه بين النوافذ بحثاً عن مصدر الصوت، استقرت عيناه على شرفة كبيرة تقع في الدور الثاني تعلوها تندة عريضة لوث الغبار لونها الأحمر وأحاله إلى لون باهت كئيب.
رأى أصابع بيضاء رشيقة تظهر تحت مظلة التندة, امتدت الأصابع  فوق حبال الغسيل المنتصبة أمام النافذة لتنظفها بقطعة قماش بيضاء.
 أخذت ترص مجموعة كبيرة من الملابس النسائية الملونة وتثبتها بالمشابك فوق الحبال بخفة وسرعة فائقة بينما كانت الشمس ترسم دوائر وظلال ذهبية فوق أظافرها المقلمة بعناية.
اختفت الأصابع الرشيقة بعد أن انتهت من رص ملابسها وتركت عمرو في حالة من الذهول والانبهار، إن ما فعلته تلك الأصابع بالنسبة له لم يكن مجرد رص للملابس فوق الحبال، بل كان عرضا فنيا من الطراز الرفيع، كانت الأصابع تتحرك بخفة ورشاقة فوق الحبال كأنها أصابع عازفة بيانو تتحرك فوق المفاتيح باحتراف وبراعة.
  تسلل إليه الفضول وأخذ يسأل نفسه عن هوية صاحبة تلك الأصابع الفاتنة.
استغرق في تأمل النافذة والملابس المعلقة على الحبل والتي كانت أطرافها تتراقص مع الرياح ثم خرج باستنتاجات عديدة.
  حرصها على تغطية النافذة بالتندة يؤكد أنها تنتمي إلى عائلة محافظة، خلو أظافرها من الطلاء يؤكد أنها متدينة وتصلي كل الفروض، نعومة يديها وخلوها من الخواتم يؤكدان أنها آنسة ربما في منتصف العشرينات مثله أو أصغر منه قليلاً. عدم وجود ملابس رجالية يؤكد أن والدها ليس موجوداً وأنها تعيش مع أمها أو ربما بمفردها.
كل هذه المعلومات أشعلت الفضول في قلب عمرو تجاه تلك الفتاة، هذا الفضول منحه شعوراً منعشا بالانبساط والبهجة، وخفف عنه احساسه بالوحدة الذي لازمه منذ أن اضطر لترك مدينته الصغيرة والعمل في القاهرة.
في اليوم التالي جلس عمرو في أحد اجتماعات الشركة التي يعمل فيها عاجزاً عن التركيز في كلام مديره لأن عقله كان مشغولا في تخيل شكل صاحبة الأصابع الرشيقة. كان عمرو كأي رجل يعشق الجميلات إلا انه لم يكن بطبيعته مهووسا بأصابع النساء، لكن منذ أن وقع تحت سحر صاحبة الأصابع الرشيقة أدرك أن جمال الأصابع وتناسقها هو أكبر دليل على جمال المرأة وأنوثتها ورشاقتها، من الصعب أن تكون للمرأة الجميلة أصابع سمينة مليئة بالنتوءات والزوائد والعكس صحيح.
هذا يعني أن صاحبة الأصابع الرشيقة على الأرجح فتاة باهرة الجمال ولكنه لن يتمكن من التأكد من صحة تخميناته إلا عندما يراها، توقع أن تظهر اليوم في نفس الموعد لكي تأخذ الغسيل، وتمنى تتخفف من تحفظها وترفع التندة.
سارع عمرو بالعودة إلى منزله بعد انتهاء موعد عمله في الخامسة، أحضر صينية طعامه المكون من باذنجان وفلفل مقلي وسلطة خضراء إلى الشرفة، وجلس على مقعد النافذة الخشبي.
أخذ يلقي الطعام بدون وعي في فمه بينما كانت عيناه مثبتتان على التندة الحمراء التي أطلت منها صاحبة الأصابع الرشيقة.
انتفض قلبه عندما رأى الغسيل يهتز والأصابع الرشيقة تعاود ظهورها تحت النتدة وتسارع بسحب الملابس واحدا وراء الآخر حتى عاد الحبل فارغاً.
  رأى طيف امرأة ترتدي عباءة زرقاء داكنة وتضع على رأسها الصغير وشاح أخضر تبرز منه خصلات شعر سوداء بلون الكحل، وسرعان ما اختفت قبل أن يتمكن من التفرس في وجهها.
القدر القليل الذي رآه منها ألقى جذوة هائلة في قلبه، هذه الجذوة ألهبت احساسيه وأشعلت خياله وملأت كيانه بالنشوة والشوق إلى رؤيتها والتعرف عليها.
دوام على الجلوس كل يوم في الشرفة من العصر إلى العشاء في انتظار أن تطل صاحبة الأصابع الرشيقة كأنه عاشق ينتمي إلى عصر قديم ينتظر ظهور محبوبته. لكن الإحباط كان يطل أمامه كل يوم متمثلا في نافذة مغلقة وحبال خالية من الملابس وتندة كريهة تغطي الشرفة المهجورة. طال انتظاره واستحالت أشواقه إلى أشواك تؤلمه وأسئلة تعذبه.
 لماذا ترفض الوقوف في الشرفة مثل بقية الفتيات في عمرها؟، لماذا تصر على التخفي والاحتجاب؟، وإلى متى سيستمر في انتظارها ومراقبة منزلها؟
إنه ليس مراهق محروم لم ير نساء في حياته، انه شاب عصري متفتح فهو يتعامل كل يوم مع النساء في الشارع والعمل، وأمامه عدد لا حصر له من الزميلات والجارات والصديقات والقريبات، نصفهن على الأقل جميلات ومتفتحات ومستعدات للحب والزواج، فلماذا يترك كل هاته النساء ويركض وراء فتاة مجهولة لا يعرفها ولا تعرفه ولم ير منها سوى أطياف وخيالات؟
لماذا لا يحترم نفسه ويوفر وقته ويتوقف عن ممارسة تلك اللعبة السخيفة ويقترب من أي فتاة جميلة لا تتوارى وراء حجاب؟.
  رغم اقتناعه بالحجج التي قدمها له عقله لكن قلبه عجز عن التوقف عن انتظارها في الشرفة، وعجز عن مقاومة التفكير فيها وتخيل شكلها وملامحها وتفاصيل حياتها، كانت أصابعها الرشيقة تتراءى لمخيلته طوال الوقت، كان يراها تربت على كتفه وتواسيه كلما شعر بالحزن أو الوحدة، وتهدهده كالأطفال في المساء حتى ينام.
  صارت صاحبة تلك الأصابع الرشيقة رفيقته ومصدر ونسه الوحيد ولقد استطاعت مخيلته أن تكمل له صورتها الناقصة. اعتقد أن أهلها المتشددين يمنعونها من الخروج إلى الشرفة لأنها باهرة الجمال، إنها أجمل من أي فتاة رآها في حياته، وجهها ابيض مستدير، عيناها عسليتان واسعتان، أنفها صغير ودقيق، وشفتاها مكتنزان، شعرها الأسود طويل يغطي خصرها الرفيع، شخصيتها خجولة قليلة الكلام ولكنها كثيرة الابتسام، متخرجة في كلية الآداب وتحب قراءة الروايات البوليسية ومشاهد الأفلام الوثائقية مثله، وتعشق الاستماع إلى محمد منير وتشرب القهوة بكثير من السكر وتفضل الشاي بالنعناع.
أخذ يفتش عليها بعينيه بين الفتيات المحجبات اللاتي يعبرن الشارع، كان يشعر أنه سيجدها وأن قلبه سيقوده إليها، لكنه كان عاجزا عن تحديد كنه شعوره نحوها؟، هل هو انجذاب أم حب أم هوس أم جنون؟.
في البداية كان يعتقد أنه مجرد انجذاب عابر لكن إصراره على انتظارها رغم طول غيابها جعله يدرك أن ما يفعله جنون، ولكنه جنون محبب للنفس لأنه الجنون الذي يخوضه المرء أحياناً ليقطع روتين الحياة الممل، ويمنحها بعض الإثارة والتشويق.
بعد أسبوع من ملازمة الشرفة والانتظار والمراقبة بلغ الإحباط ذروته في نفسه وبدأ يشعر أن اللعبة بدأت تفقد متعتها لأن الطرف الآخر غائب طوال الوقت ولا يريد المشاركة في اللعبة ولو بظهور عابر. تسرب الشك إلى نفسه فتساءل إن كانت غادرت المنزل أو سافرت؟
 الإجابة عن هذا السؤال من المفترض أن تكون في غاية السهولة لأنها جارته، يجمعها به نفس الشارع ويسيران على الأرض نفسها وتفصل بينهما خطوات قليلة فما الذي يمنعه من اتخاذ المبادرة وقطع الشك باليقين ومطابقة الواقع مع الأحلام؟
 ارتدى ملابس الخروج واستجمع كل ما لديه من شجاعة، أخذ نفسا عميقا محاولا أن يهدأ أعصابه المضطربة ودقات قلبه المتسارعة، توجه إلى العمارة المقابلة له بخطوات وئيدة مترددة، شعر بارتياح عميق عندما لم يجد حارسا يجلس في بهو العمارة.
 استطاع أن يخمن بسهولة أنها تسكن في الجهة اليسرى من مكان الشرفة التي حفظ شكلها وتفاصيلها عن ظهر قلب.  رأى أمامه باباً خشبياً لامعا تتوسطه لافتة فضية مكتوب عليها بخط صغير (المحاسب فتحي محمد عبد الشكور).
 فرح أن والدها يعمل محاسبا مثله، دق على جرس الباب بأصابع مرتعشة بينما كان يحاول التفكير فيما سيقوله لأمها عندما تسأله عن سبب مجيئه، هل يخترع أي قصة وهمية ويتظاهر أنه شخص دق باب المنزل بالخطأ ويخبرها انه جارها ويحاول أن يتعرف عليها؟، أم يصارحها بالحقيقة ثم يتقدم لابنتها التي حرك طيفها مشاعره الخامدة، لكن كيف يتقدم لها وهو لم يرها بعد؟
قبل أن يتوصل إلى الإجابة سمع صوت حركة خلف الباب.
 انفتح الباب بهدوء وظهرت أمامه سيدة عجوز سمينة رقيقة الملامح رغم ترهل وجهها، ترتدي جلبابا زيتياً وتغطي شعرها المصبوغ باللون الأسود بوشاح وردي. ابتسمت له متسائلة عما يريد.
 ارتبك وتلعثم وهو يعرفها على نفسه:
-انا اسمي عمرو وبشتغل محاسب وعايز أتقدم لبنت حضرتك، اطمني يا طنط احنا متقابلناش قبل كده , انا بس شفتها وهي وافقة في البلوكنة بتنشر الغسيل من أسبوع.
عقدت السيدة حاجبيها الرفيعين في استغراب وقالت له:
-بس انا يا بني معنديش بنات، انا عايشة لوحدي في البيت بعد لما جوزي توفى.
-ازاي بس انا شفتها مرتين مرة وهي بتنشر الغسيل ومرة تانية وهي بتلمه، ولا هي واحدة جات تساعدك في شغل البيت؟
- لا مفيش حد بيزوني هنا خالص ولا حد بيعملي شغل البيت، انا اللي بنشر غسيلي بنفسي، الدور ده مفيش حد ساكن فيه غيري يمكن شفت بنت في دور تاني ومش واخد بالك.
للوهلة الأولى ظن أنها تكذب عليه لأنها لا تريده أن يرى ابنتها. حدق في يديها الناعمتين اللتين لم تشوهما الشيخوخة، وتأمل أصابعها الرشيقة وهي تتراقص أمامه وتشير إليه حتى يبحث عن فتاته المنشودة في مكان آخر.
تبخرت الأوهام وسطعت الحقيقة، اختلجت ملامحه وانكمش في مكانه، اعتذر إليها بصوت خافت مكتوم بدون أن ينظر إليها، نكس رأسه وقد استحال خجله من نفسه إلى سيل من العرق ألهب جسده وأجبره على العودة إلى منزله ركضاً.

0 تعليقات