الشغف
هذا أول مقال أكتبه بعد انقطاع عن الكتابة دام لأكثر من أربعة أشهر, وهي من أطول الفترات التي ابتعدت فيها عن الكتابة الأدبية. كنت أدعي أن سبب ابتعادي عن الكتابة هو انشغالي في عملي الجديد الذي يلتهم معظم وقتي, لكني في قرارة نفسي كنت أعلم أن الانشغال حجة واهية. فبين أوقات الانشغال تأتي بعض أوقات الفراغ,  في تلك الأوقات تزورني الأفكار وتداعبني الخواطر, تومض الكلمات والحروف في مخيلتي, أتأملها فاكتشف أنها عادية فأتجاهلها, أحاول البحث عن فكرة أفضل ولكني أفشل, كل الحوادث والأخبار المفجعة التي أقرأها واشاهدها لا تدفعني للإبداع بل تصيبني بالشلل الفكري والخرس الأدبي, لا استطيع العثور على فكرة مذهلة تدفعني للجلوس شاشة الحاسب حتى أنفذها, أشعر أن كل شيء حولي صار مملًا ومبتذلًا.
عندما تأملت حالتي اكتشفت أنني لا أعاني من فقدان الإلهام ولكني أعاني من فقدان الشغف, لم تعد لدي طاقة أو حافز  لكتابة رواية أو حتى قصة قصيرة, لم أعد مهتمة بالبحث عن أفكار جديدة , لم أعد حتى مهتمة بإرسال كتاباتي لدور النشر أو ترويجها على صفحات التواصل الاجتماعي لأنني أعلم مسبقا أن النتيجة ستكون صفر  ورد الفعل المتوقع سيكون التجاهل أو الرفض.
عندما أنظر لأعمالي الادبية السابقة اندهش من كم المجهود الذي بذلته من أجل كتابتها واتساءل من أين  أتيت بكل تلك الطاقة حتى أكتب هذه الأعمال ؟. وأين أنا من تلك الفتاة التي كانت تجلس بالساعات أمام الكمبيوتر لتفكر وتبتكر وتكتب وتصحح وتنقح عشرات المرات بدون ملل أو كلل ؟. اكتشفت أنه لولا الشغف لما استطعت أن أكتب جملة واحدة في أي عمل أدبي. الشغف هو الوقود الداخلي الذي كان يدفعني لتحمل العزلة والبحث والعصف الذهني من أجل كتابة نص أدبي جيد.
ولقد مات شغفي وفقدت الكتابة أهميتها  بالنسبة لي. شغفي بالكتابة لم يمت فجأة ولكنه مر بمراحل الصعود والهبوط التي يمر بها الكائن الحي, كان شغفي بالكتابة في البداية مثل الطفل محب للحياة  يريد أن يلعب ويلهو ويستكشف كل شيء حوله, يريد الاستحواذ على وقتي كله ويتحمس لكل فكرة وكل خاطرة ويراها مشروع عمل أدبي عظيم. مع مرور الوقت أصبح الشغف كائنًا ناضجًا  يعلم متى يظهر ومتى يتوارى وما هي الأفكار التي تستحق حماسه وتستحق أن تجعله يدفعني لتنفيذها.
بعد دخولي معترك الأدبي وتوالي الصدمات والإحباطات على رأسي تلقى كائن الشغف طعنات قوية أصابته بالشلل وسلبته القدرة على الحركة.
لم استسلم ولم أرغب في ترك الشغف يموت. حاولت أن أعالجه بكل الطرق المتاحة أمامي. سقيته عصير الأمل والحٌلم, اقنعته أن الكتابة ليست هواية لطيفة لكي اتخلى عنها  ببساطة, ولكنها رسالة مقدسة ومسئولية كبرى ووسيلة لتغيير العالم للأفضل لذا لا يجوز لي التخلي عن موهبتي والتوقف عن تأدية مهتمي بسبب بعض العقبات التي تواجه كل الكتاب. صدقني شغفي وحاول أن يتحامل على الالآم التي يشعر بها ويعود من أجلي, أتكأ علي واتكأت عليه وسرنا معًا لنواجه الواقع بمفردنا ونحاول أن نتحداه. كنت أظن أن الإصرار والمثابرة والاجتهاد هي الوسائل الناجعة لتخطي أي عقبة. اعتقدت أن كل المطلوب مني هو الانتظار والصبر حتى ترى كلماتي النور وتتحقق أحلامي الأدبية وأرى صدى حقيقي لمجهودي.
انتظرت وانتظر معي شغفي, عاندت حدسي وصدقت الوعود, تحديت يأسي وحُلمت بغد أفضل, وانتظر شغفي معي. طال الانتظار حتى سد شرايين الشغف داخلي وجمده  تماما, وفي النهاية اتضح لي أنني كنت انتظر السراب وأن كل الوعود التي صدقتها كاذبة وأن كلماتي ستظل حبيسة الأدراج للأبد.
حاولت أن أتخذ طريقًا مختلفًا لأبقي شغفي على قيد الحياة, قررت أن أنشر كتاباتي الكترونيًا بين الناس بدون وسيط أو حدود أو مقابل مادي, أصبت بصدمة أكبر ألا وهي صدمة التجاهل واللامبالاة.
اكتشفت  أن أي أديب مهما بلغت أهمية كتاباته لا يستطيع أن ينجح وحده ويصل إلى الناس بمجهوده الفردي اعتمادًا على نفسه بدون دعم مادي أو معنوي كبير. اكتشفت أن صورة الكاتب أمام الناس أهم من الكتابات التي يقدمها وأن الناس يرون الكتاب سلعة استهلاكية فإن قدمت لهم تلك السلعة مجاناً سوف يعتقدون أنها بلا قيمة , اكتشفت أنني وحيدة تمامًا أمام عالم مليء بالشلل و المجموعات وأصحاب العلاقات النافذة.
هذه الاكتشافات جعلتني أدرك أن كل مجهوداتي ذهبت هباءً وأنني أضعت سنوات طويلة من عمري في انتظار الأوهام. عجزت عن إطعام شغفي بمزيد من تلك الأوهام فتركته يحتضر حتى مات بدون أن أشعر.
عندما تأملت حالتي اكتشفت أن واقع الأدب البائس والذي تحدثت عنه بالتفصيل في مقالات سابقة حملت عنوان كوابيس النشر في مصر لم يكن المسئول الوحيد عن قتل شغفي ولكني قتلته بنفسي لأنني أخذت الكتابة بجدية زائدة, وصدقت فعلا أن الأدب رسالة أن الكتابة بإمكانها تغيير العالم.
 الكتابة ليس بإمكانها أن تغير العالم وليس بإمكانها أن تغير حتى شخص واحد, لأن الإنسان بطبعه يكره التغيير ويقاومه بكل أوتي من قوة, الإنسان يتغير رغمًا عنه ببطء شديد مع كثرة التجارب التي يمر بها وليس بسبب القراءة.  
القراءة نادرًا ما تغير أحد لأن المرء لا يقرأ إلا لمن يشبهه ويقدم الأفكار التي يؤمن بها, معظم الناس يلجئون للقراءة السهلة, القراءة التي تؤكد لهم معتقداتهم وتُطمئنهم أنهم على حق ويتجاهلون أصحاب الأفكار التي تخالفهم أو تستفزهم أو تحثهم على إعادة التفكير في المسلمات التي يؤمنون بها. لذا تجد أن أغلب من يشترون الكتب التي تهاجم الإلحاد وتثبت وجود الله متدينين يريدون من يطمئنهم  لصحة إيمانهم, وأغلب من يشترون الكتب التي تهاجم الأديان وتنكر وجود الله ملحدين يريدون الاطمئنان لصحة معتقداتهم الإلحادية.
الكتاب يؤمنون أنهم قادرين على تغيير الناس بكتاباتهم في حين أن جمهورهم المستهدف لا يهتم بهم, لا سيما في العالم العربي الذي يفتخر فيه الناس بجهلهم ويسخرون من أهل الكتب والكتابة, ويطلقون عليهم الأحكام بكل ثقة وغرور بدون أن يكلفوا أنفسهم قراءة شيء أبعد من العناوين والسطور الأولى.
لقد اكتشفت أن الكاتب في العالم العربي هو شخص مريض بالوهم, وهم أنه مهم ومؤثر وأن لديه جمهور في حين أنه يشبه محاضر يجلس في قاعة مغلقة  يتحدث مع نفسه يرغي ويزبد ويصيح على أمل أن يلفت الانتباه المارة خارج القاعة لكن لا أحد يسمعه أو يهتم بما يقوله.  عندما ادركت هذه الحقائق المريرة لم يعد شغفي قادراً على البقاء لمدة أطول.
رغم موت الشغف داخلي لازلت اكتب ليس لأنني استمتع بالكتابة وليس لأنني أريد أن أوصل أي رسالة, لقد تضاءل هدف الكتابة بالنسبة لي وصارت مجرد نشاط يهدف  إلى الفضفضة والبوح وتفريغ الطاقة السلبية وتخفيف إحساسي بالوحدة والوحشة.
هذا المقال هو رثاء لنفسي, لأحلامي الأدبية التي تقينت أنها  لن تتحقق, وللإنسانة  البريئة الساذجة المثالية التي كنت عليها. إنني حزينة لأن هذه الإنسانة لم يعد لها وجود, لكني أحمد الله  أنني توصلت إلى هذه الاكتشافات قبل أن أهدر المزيد من سنوات عمري في الركض وراء السراب.

1 تعليقات

  1. كل ما سوف أقوله لك.. لا تستسلمي كوني متفائلة.. توكلي على الله.. انت بارعة في الكتابة.. آمني بنفسك ولا تستسلمي ولا توهمي نفسك.. الشغف موجود.. هو فقط يحتاج إلى تحفيز.. إقرأي كتب أدبية جديدة و أكملي... وتذكري هذه الكلمات... لا تستسلمي.. أتمنى لك التوفيق

    ردحذف

رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته