- كيف حالك ؟ 
- الحمد لله بخير.
لا أتذكر أخر مرة سألت فيها أي شخص أعرفه عن أحواله, ولم يبتسم لي وهو يحمد الله ويخبرني أنه بخير حتى لو لم تكن هذه هي الحقيقة, أصدقه أو اتظاهر بتصديقه وأشعر بالاطمئنان لأنه يقدم لي الاجابة التي اتوقعها منه.
 إنها الاجابة النموذجية التي يكررها الجميع حتى أمام أقرب الناس إليهم, انه اتفاق  غير شفهي بين أعضاء المجتمع على التظاهر بأنهم بخير وأن كل شيء في حياتهم على ما يرام, ولكن نسبة قليلة من هؤلاء على ما يرام فعلا, كلنا نعاني سواء من مشاكل صحية أو مادية أو اسرية أو نفسية, ولكننا نتعمد اخفائها وننكر وجودها لأسباب عديدة :
أولا : لأننا نعلم جيدا أن معظم الناس لا يسألون عن أحوالنا من باب الاهتمام والحب  ولكن من باب الواجب والاعتياد والذوق.
ثانيا: إننا نخاف من الآخرين, نخاف من إلقاء أحمالنا النفسية عليهم, نخاف من إدخالهم في تفاصيل حياتنا الشخصية, نخاف أن نعطيهم المفتاح لاقتحام خصوصياتنا و معرفة أدق أسرارنا, نخاف ألا يستطيعوا فهم أبعاد مشاكلنا أو أن يحكموا علينا بقسوة وتعنت.
ثالثا : إننا نخاف من شماتة الآخرين بنا ونخاف أننا لو رفعنا الستار عن حياتنا وكشفنا الحقيقة أن نتحول إلى مادة للشفقة ومصمصة الشفاه ونبدو أمامهم بمظهر ضعيف أو مهزوز, ولأن النجاح في نظر المجتمع مرتبط بالقوة والتماسك والسعادة, والفشل مرتبط بالضعف والبؤس فصار مطلوب من كل فرد في المجتمع أن يتظاهر بالسعادة والآخرون مطالبين بأن يصدقوه.
هذا ما يحدث بالفعل. لقد صرنا نصدق التمثيليات التي نقوم بها أمام بعضنا حتى  إن كنا نعيش في كذبة كبرى, صرنا نصدق الابتسامات المزيفة التي نصنعها أمام بعض, صرنا نصدق أن الصورة تبرز كل الحقيقة وأن المظهر يعكس الجوهر, وصرنا نتفنن في إتقان أدوارنا, دور الموظف الناجح, دور الزوجة السعيدة, دور الطالب المتفوق, دور الشاب خفيف الظل المتفائل, دور الانسان الحكيم الهادئ, دور الفتاة المستقلة القوية, كل منا أختار لنفسه دورًا يمارسه في الحياة أو ربما الظروف اختارت له هذا الدور, ولكنه استجاب وقرر أن يؤدي دوره ببراعة واستطاع إقناع الناس أن هذه هي حقيقته وأن الواجهة التي يقدمها للآخرين تعكس شخصيته.
مشكلة الأقنعة الاجتماعية أن ارتدائها طوال الوقت يصيب الانسان بالوحدة والاغتراب عن نفسه, أنت تخون نفسك ومشاعرك في كل مرة ترتدي فيها قناع السعادة وتتظاهر بعكس ما تشعر به, هذه الخيانة تتسبب في إحداث انقسام داخلك فتجد نفسك تعيش بشخصيتين.
الشخصية الأولى هي الواجهة التي تظهر بها أمام الناس, إنها الشخصية التي اخترعتها  بوعي أو بدون وعي حتى تنال من خلالها رضى الناس وتتأقلم مع المجتمع, إنها شخصية قوية, متماسكة , هادئة , مبتسمة , متفائلة وراضية طوال الوقت.
 الشخصية الثانية هي شخصيتك الأصلية, الشخصية التي ولدت بها والتي عشت بها في طفولتك ثم اضطررت بعد أن كبرت أن تكبتها وتحبسها في ثنايا عقلك إرضاء للمجتمع , هذه الشخصية ليست بالضرورة أسوأ من شخصيتك المزيفة ولكنها أقل تهذيبا وأكثر اضطرابا, إنها شخصية عفوية,  صريحة, منطلقة, قلقة وغاضبة لأنها لا تجد متنفسا للخروج والتحرر من القيود التي تضعها حولها.
بعد أن تعود إلى منزلك وتدخل حجرة نومك وتختلي مع نفسك , تسقط شخصيتك المزيفة ويسقط ورائها القناع التي تضعه فوق مشاعرك  فتخرج شخصيتك الأصلية من مخبئها ثم تصب عليك جام غضبها, تلومك وتعنفك, تٌذكرك بكل الحقائق المؤلمة التي تجاهد طوال اليوم لكي تنساها, تشعر أنك إنسان مزيف ومخادع وأنك ستخسر كل شيء إذا عرف الناس حقيقتك فينغرز في أعماقك الشعور بالوحدة.
وما يزيد من وحدتك هو اعتقادك أنك الوحيد الذي يضطر للتزييف والخداع حتى ينال رضا الناس, وأنك الوحيد الذي يعاني من سوء الحظ والذي لا تعطيه الحياة ما يشتهيه, الوحيد الذي يشعر بالوحدة ويعاني ويتألم في صمت ولا يجد صديقا حقيقيا يشكو إليه, الوحيد الذي يشعر بالضعف ويقع في الأخطاء ويحيد عن الطريق المستقيم ويرغب في تدمير نفسه وكل شيء حوله ويكاد يفقد صوابه بينما تظن أن الآخرين مختلفين, الآخرون أقوياء وأذكياء وعقلاء ومتماسكون وناجحون وسعداء حقا.
 هذه ليست الحقيقة, كل شخص يعتقد أنه مختلف وأنه الوحيد الذي يضطر للخداع والتزييف بينما هو مثل الآخرين, الجميع يرتدون الأقنعة, قد يختلف شكل القناع وقد تختلف درجة سماكته وقوته ولكن القناع موجود فوق وجوه الجميع حتى يؤدي نفس المهمة, مهمته هي أن يصدر للآخرين صورة ذات بعد واحد, صورة مثالية وبراقة وناصعة البياض عنك.
 القناع يحمي جوانب الضعيفة والهشة من نفسك من  الناس كما أنه  يحمي الناس من الجوانب العنيفة والقبيحة منك,  ولكنه في الوقت نفسه يفصلك عنهم ويجعلك تشعر بالوحدة وأنت بينهم لأنك تعلم جيدا أن الشخص الذي يعيش بينهم ليس أنت مما يؤدي إلى إحداث صراعا داخلك بين الصورة والأصل, بين الشخصية الحقيقية والمزيفة, بين الوعي و اللاوعي. هذا الصراع يصيبك بضغوط نفسية عديدة, تلك الضغوط قد تدفعك للتفكير في نزع القناع والكشف عن حقيقتك أمام الآخرين ولكنك في النهاية تتراجع وتظل محتفظا بالقناع.
 قليل من الناس يملكون الجرأة والشجاعة لنزع أقنعتهم الاجتماعية والكشف عن شخصيتهم الحقيقية أمام الآخرين والبوح بما يفكرون فيه والتصرف كما يحلو لهم.
نزع القناع هو خرق واضح للعقد الاجتماعي الغير مكتوب الذي اجتمع عليه الناس بارتداء الأقنعة, لقد أظهر الروائي يوسف السباعي في روايته الشهيرة أرض النفاق العقاب التي يتعرض له أي شخص يقرر التوقف عن ارتداء قناع الفضيلة ويقرر التوقف عن النفاق والادعاء والتجمل.
عندما قرر بطل الرواية أن يتناول حبوب الشجاعة تعرض لمشاكل لا حصر لها وتهدمت حياته وعانى من النبذ والإقصاء من المجتمع, وهذا ما يحدث في الحقيقة لمن يقرر التوقف عن الاشتراك في التمثيلية الكبرى الذي يفرضها عليه المجتمع وأن يعيش بحريته وعلى طبيعته.
لا أحد لديه استعداد للمخاطرة والتضحية بحب الناس له لأن الانسان كائن اجتماعي لا يستطيع العيش بدون الآخرين حتى لو اضطر أن يظهر أمامهم بصورة مزيفة ومخادعة.
بناء على ذلك يظل كل شخص مجبرا على ارتداء القناع الاجتماعي أمام الآخرين ولا يتمكن من نزعه والظهور بشخصيته الحقيقية  إلا أمام أشخاص محددين  يمكنه أن يشعر بالأمان معهم  إما لأنهم أضعف منه وبالتالي فهو يضمن أنهم لن يتمكنوا من إيذائه, أو لأنهم يشبهونه ويشتركون معه في نفس الصفات التي يريد إخفائها عن بقية الناس.
 إذا لم يستطع الإنسان أن يجد هؤلاء الأشخاص يقع في أزمة نفسية كبرى, لكي يخرج من تلك الأزمة يصبح أمامه اختيارين : إما أن يتخلص من القناع للأبد ويخاطر بخسارة الناس والعيش وحيدا منبوذا مقابل أن  يتحرر من أكاذيبه ويصير متصالحا مع نفسه أو أن يستمر في الاحتفاظ بالقناع ولا يخلعه أبدا  حتى عندما يختلي بنفسه  حتى يلتصق القناع بوجهه ويصيران شيئا واحدا.
الاختياران كلاهما صعب وكلاهما يحمل عواقب وخيمة وكلاهما يؤدي إلى وقوع الإنسان في صراعات نفسية خطيرة, هذه الصراعات هي المنبع الأساسي للأمراض النفسية والعصبية التي صارت سمة العصر الحديث.
حل أزمة الأقنعة الاجتماعية ليست فرديا ولكنه حل جماعي, يجب علينا كمجتمع أن نعدل بنود العقد الاجتماعي ونجعلها أقل صرامة وأكثر تسامحا, يجب أن نتعلم كيف نتقبل اختلافاتنا بدلا من أن نخفيها حتى ننول رضا الآخرين, يجب أن نتعلم كيف نقول الصدق بدون أن نصل إلى الوقاحة, وكيف نعبر عن أنفسنا بحرية  بدون أن نخاف أن نبدو ضعفاء.
الأقنعة قد تبدو جميلة وبراقة من الخارج ولكنها قبيحة من الداخل لأنها مصنوعة من الأوهام والأكاذيب, الحقيقة قد تبدو قبيحة ومخيفة من الخارج ولكنها جميلة من الداخل لأنها مكونة من مادة نقية خالية من الشوائب والألوان الصناعية.

1 تعليقات

رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته