كيف يمكن أن تستمر في البقاء على قيد الحياة بدون أن يشعر أحد بوجودك؟. 
كيف يمكن أن تظل عضوًا في المجتمع وفي الوقت نفسه تعيش منفصلًا عنه تماما في عالم صغير خاص بك وحدك ؟.  
كيف يمكن أن تسير في الشارع وتعمل وتتكلم بدون أن تلفت نظر الناس إليك ؟.
إنها معادلة مستحيلة التحقق ولكن زياد أعتقد أن باستطاعته تحقيقها.
معظم الناس يريدون إثبات وجودهم في الحياة عن طريق جمع الأموال والزواج وانجاب الأطفال, ولكن زياد تخلى عن تلك الأهداف من وقت طويل لأنه اكتشف أن الوصول إليها من قبيل الخيال الغير علمي.
 أقنع نفسه أنه راض بحياته المتقشفة في شقة متواضعة مع والديه العجوزين وأخوته الأربعة, وراضٍ عن العمل المتواصل نهارًا كُمدخل للبيانات في شركة استثمارية وليلًا كبائع في محل كمبيوتر. المشكلة أن ساعات عمله صارت أطول ومرتبه صار يتضاءل وينكمش وفواتير المياه والكهرباء والغاز باتت تتراكم عليه وقدرته على شراء الطعام والملابس صارت ضعيفة وحالته الصحية تدهورت نتيجة تعرضه للإرهاق الشديد من فرط العمل. ورغم نجاحه في البقاء على قيد الحياة إلا أنه بات يعيش خائفًا ويشعر أن بقاءه مهدد.
 الحل الأنسب الذي رآه للحفاظ على بقاءه هو أن يصبح كائنًا غير مرئي, كائنًا لا يشكل وجوده مصدرا للمشاكل أو الإزعاج.
فرض على نفسه قواعد صارمة والتزم بها بدقة. صار يستهلك أقل قدر ممكن من الطاقة, يأخذ أقل مساحة متاحة في الشارع وفي وسائل المواصلات وفي مكان عمله,  يسير على أطراف أصابعه على الرصيف ملتصقا بالحائط, ينظر أمامه ولا يسمح لعينيه أن تلتقي بعيون الناس. لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم إلا للضرورة القصوى. لا يشترك في أي أنشطة, لا يشترك  في نادي أو جمعية أو تجمع أو شلة, لا يمارس أي هوايات, صار تركيزه كله منصب على انجاز عمله وتناول أقل قدر من الطعام والحصول على أقل قسط متاح من الراحة.
سار على هذه القواعد لفترة طويلة إلا أن تعود عليها وأصبحت جزءًا لا يتجرأ من حياته. شعر بالاطمئنان بعد أن اعتقد أن وجوده لم يعد مهددا لأن لا أحد يراه ولا أحد يلاحظه وبالتالي لا أحد بإمكانه أن يؤذيه.
في أحد الأيام كان يجلس في مكتبه أمام الكمبيوتر منهمكا كعادته في تعديل بعض البيانات عندما سمع صوتاً هادئًا يُلقي عليه تحية الصباح ويقول له :
- صباح الخير, هل من الممكن أن تعطيني دقائق قليلة من وقتك ؟
حول عينيه لا إراديًا من شاشة الكمبيوتر إلى باب الغرفة فوجد رجلا وسيمًا أبيض البشرة فارع الطول يقف أمامه ويرسل إليه تحية في شكل ابتسامة هادئة.
شعر زياد بالقلق عندما تطلع إلى هذا الرجل ولاحظ أن اللون الأسود يطغي على مظهره, عيناه سوداوان واسعتان تشعان غموضا ممزوجا بالثقة, شعره أسود كثيف مصفف بعناية, يرتدي بدلة سوداء ويضع رابطة عنق سوداء ويحمل في يده اليمنى حقيبة سوداء كبيرة.
عدل زياد من وضع نظارته الطبية وابتسم للرجل في انتظار أن يكشف عن سبب زيارته :
فتح الرجل حقيبته واخرج منها ورقة بيضاء وناولها له قائلًا :
- أنا موظف قادم إليك من الهيئة العليا للأمن والأمان لكي أعطيك تلك الاستمارة.
كان سماع اسم الهيئة العليا للأمن والأمان كافيًا لإرسال موجات عنيفة من الذعر في جسد زياد النحيل, هربت الدماء من وجهه وأخذ قلبه الضعيف يدق بعنف بينما كان يحاول السيطرة على أعصابه والتظاهر بالهدوء أمام الموظف, أخذ زياد الاستمارة بأصابع مرتجفة وأمسكها بحرص كأنها تحتوي على قنبلة موقوتة على وشك الانفجار في أي لحظة, لقد سمع عن تلك الاستمارة بدون أن يقصد من خلال احاديث زملائه,  كانوا يطلقون عليها اسم الاستمارة السوداء وها هو الآن يعرف السبب, فرغم أن لونها أبيض إلا أن طرفها الأيمن مزين بخط أسود مائل يشبه الشريط الذي يوضع على صور المتوفين. أشار الموظف الوسيم إلى أسفل الاستمارة وطلب منه في هدوء أن يضع علامة صح في نهاية الاستمارة ثم يكتب اسمه وتوقيعه.
شعر زياد بإحباط شديد وهو يقرأ محتوى الاستمارة رغم أنه توقعه.
طلب الموظف منه أن يوقع على الاستمارة بسرعة لأنه مشغول وأمامه كم كبير من الناس يريد أن يعطيهم الاستمارات.
ارتعشت أصابع زياد وهو يمسك بالقلم, نظر إلى مكان التوقيع بارتياب. المسألة تبدو في غاية البساطة والسهولة, سيكتب كلمة نعم ثم يكتب اسمه ويضع توقيعه. ولكن الأمر بدا له  مخيفا ومرعبا وكأنه على وشك أن يقفز من فوق جبل شاهق بدون باراشوت. إن وجود هذه الاستمارة أمامه نذير شؤم وعلامة كبرى أن المجهود بذله على مدار السنوات الماضية من أجل التخفي باء بالفشل.
 إنه يهرب من التوقيع على أي ورقة رسمية أو غير رسمية لأن التوقيع إثبات للوجود وهو يريد أن ينفي وجوده بأي شكل, يحاول أن يهرب من هذا الوجود وألا يجعل أي أحد يشعر بوجوده لأنه يعلم جيًدا أنهم لو شعروا بوجوده فلن يتركوه في حاله, ولكن بما أنهم اكتشفوا وجوده فليس أمامه اختيار سوى أن يرضخ لهم ويوقع على الاستمارة.
عاد يمسك بالقلم ولفه حول أصابعه بقوة حتى يكتب كلمة نعم. ولكن عندما حاول أن يكتبها اهتزت أصابعه وتقلصت فأحس كأنه طفل صغير لا يعرف الكتابة. لماذا كتابة كلمة نعم صعبة عليه إلى هذا الحد؟ .
السبيل الوحيد للبقاء في هذا المجتمع هو أن تقول نعم باستمرار ولقد اعتاد على قول نعم طوال حياته بدون تفكير, وعندما لم تعد نعم توفر له الأمان الكافي لجأ إلى الصمت والاختفاء, اعتاد على الصمت حتى صار الصمت حصنا  آمنا يحميه من العالم الخارجي وهو لا يريد التخلي عن حصنه لأي سبب, لا يريد أن يوقع على أي ورقة رسمية لأن هذا التوقيع إثبات لوجوده. ومن يعلم فربما يتم اتخاذ توقيعه كدليل إدانة ضده في المستقبل إذا تغيرت الأحوال وانقلب كل شيء,  إنه لا يريد أن يعرض نفسه للخطر, يريد أن يبقى خفيًا حتى يضمن لنفسه الأمان.
كان هناك صداما يتحدم داخله بين أن يستجيب لطلبات الموظف المهم ويوقع على الاستمارة ويخرج من ملجئه ويعلن عن وجوده, ويبن أن يستجيب لغريزة الخوف وحب البقاء بداخله ويمتنع عن التوقيع.
ابتسم للموظف في ارتباك وقال له بصوت مرتجف بينما كانت حبات العرق تتساقط فوق جبهته:
- اعذرني ولكني لا أستطيع التوقيع على هذه الاستمارة.
طفت علامات الاستفهام على وجه الموظف فأردف زياد :
- لا تفهمني خطأ, هذا لا يعني أنني ضد ما هو مكتوب في الاستمارة, كل ما في الأمر أنني لا أحب ادخال  نفسي في  هذه الأمور لأنها لا تخصني.
رد عليه الموظف باستغراب :
- كيف لا تخصك هذه الأمور؟, أنت مواطن ومن واجبك المشاركة وإبداء رأيك في كل الأمور المتعلقة ببلدك.
- إنها ليست بلدي.
 ندم زياد لأنه سمح لتلك العبارة بالإفلات منه عندما رأى الموظف يرفع حاجبيه لأعلى اندهاشا من رده. أخذ جسده ينتفض وهو يقول له برجاء:
- أنا آسف, لقد أخطئت التعبير, أنا أقصد أنني أرى نفسي أقل من أن أدلي برأيي في تلك المسائل الكبرى لأني لا أفهم فيها وأُرى أنه من الأفضل أن أتركها للمتخصصين أمثالكم.
وجه له الموظف ابتسامة مريبة ثم اقترب منه وأخذ يُمعن النظر فيه, نظراته كانت قوية وحادة, كان يحاول أن يخترق عقل زياد بعينيه الثاقبتين لكي يكشف عن أفكاره ودوافعه.
عاد زياد ينظر له برجاء ثم قال له متوسلًا :
- ارجوك اتركني اعيش في حالي ولا تُدخلني في مسائل لا شأن لي بها.
تراجع  الموظف للوراء ثم ظل محافظًا على ابتسامته وهو يرد عليه :
- أنا افهمك جيدا, من حقك  أن تمتنع عن توقيع الاستمارة وليس من حقي أن أضغط عليك حتى تشارك معنا. آسف لإضاعة وقتك.
أعاد الموظف الاستمارة إلى حقيبته بكل هدوء ثم استدار وغادر المكتب  تاركا زياد غارقا في مخاوفه وهواجسه.
ظلت اصداء تلك الزيارة تتردد في عقله بقية اليوم وتبعث داخله موجات جديدة من الخوف , ماذا تعني هذه الزيارة ؟ , لقد اكتشفوا وجوده ولكن كيف حدث ذلك ؟ من وشى به ؟, من لاحظه ؟ كيف استطاع أن يلفت انتباههم ؟, وهل تفهم الموظف سبب امتناعه عن التوقيع أم انزعج منه ؟ , وهل سيتركه في حاله كما يدعي أم سيعثر على طريقة أخرى لإجباره على التوقيع ؟
تلك الأسئلة جلبت معها فيضًا من الافتراضات والتكهنات والتوقعات التي تحولت إلى أشباح وكائنات اسطورية مرعبة أخذت تقتات على أعصابه وتنزع منه القدرة على التركيز في عمله وتحرمه من النوم ليلا. حاول زياد أن ينسى الأمر برمته ويتظاهر كأنه لم ير الموظف ولم يقرأ الاستمارة حتى يستطيع أن يمضي في حياته.
بعد أيام قليلة من الزيارة عاد إلى منزله ليلًا بعد انتهاءه من عمله في محل الكمبيوتر ليفاجئ بوالديه واخوته جالسين بجوار بعضهم على كنبة الصالة المتهالكة,  كانت ظهورهم منحنية , رؤوسهم تقترب من الأرض ووجوههم يعلوها الاصفرار كأنهم لصوص تم ضبطهم متلبسين بالسرقة بينما وقف حولهم مجموعة من الرجال من أصحاب الأجساد الضخمة يرتدون بدل سوداء ويحدقون في الفراغ بوجوه متجهمة.
تجمد زياد في مكانه عندما رأى الرجال يحدقون إليه في نفس الوقت, أحس أن عيونهم تصفعه على وجهه عشرات المرات فجفل وانتفض جسده , اختلس أهله نحوه نظرات يختلط فيها الذعر بالشفقة.
أدرك زياد فورًا هوية هؤلاء الرجال وسبب وجودهم في منزله بدون أن يتبادل معهم أي كلام. تقدموا نحوه في خطوات ثابتة وأخبروه بما توقعه, إنه مطلوب للاستجواب من قبل الهيئة العليا للأمن والأمان.
خلال لحظات فقد زياد قدرته على النطق والحركة والتفكير, سار ورائهم باستسلام كأنه شاه مُساقة نحو حتفها. اقتادوه للركوب معهم في سيارة سوداء مصفحة, وبمجرد أن دخلها فوجئ بأحدهم يمسكه من ذراعيه ويضع فوق عينيه عٌصابة سوداء بينما كان يخبره معتذرا أن هذا الإجراء ضروري لدواعٍ أمنية.
لم يغضب ولم يعترض ولم يتكلم, ظل متصلبًا في مكانه بينما كانت السيارة تعدو في الطريق, فقد زياد احساسه بالزمان والمكان, فقد إحساسه بنفسه وبهويته, كان عقله عاجزا عن فهم وتفسير ما يحدث له, في البداية شعر أنه تحول فجأة إلى بطل لأحد أفلام الرعب الامريكية التي يكرهها , بعدها أحس أنه سقط في بئر لا قرار له ثم  توفى وان السواد الذي يراه أمامه الآن هو القبر وانه التمهيد للعذاب الذي سوف يلقاه في النار.
استرد زياد قليلا من إحساسه بالواقع عندما توقفت السيارة. أحكم الرجال قبضتهم على ذراعيه النحيلتين وجروه خارج السيارة, ظل يسير معهم بخطوات بطيئة منتظمة, لم يسمع شيئا سوى صوت طرقات قلبه العنيفة إلى أن تم نزع العُصابة من فوق عينيه.
فوجئ بفيض من الضوء الأبيض يخترق مقلتيه ويحرقها. أغلق عينيه ثم فتحهما تدريجيا بصعوبة شديدة كأنه طفل يصطدم برؤية العالم لأول مرة.
نظر حوله فوجد نفسه يقف في حجرة بيضاء صغيرة خالية من أي شيء إلا مكتب رمادي يجلس ورائه الموظف الوسيم الذي طلب منه التوقيع على الاستمارة.
حياه الموظف بنفس الابتسامة الهادئة وطلب منه الجلوس على الكرسي الخشبي القابع أمامه. تجاوز زياد الكرسي وتقدم نحو الموظف وأخذ يعتذر له عن رفضه توقيع الاستمارة واخبره أنه مستعد أن يوقع عليها الآن ويوقع على كل ما يشاء من الاستمارات.
ارتسمت على وجه الموظف ابتسامة ساخرة وقال له :
- هناك أوان لكل شيء ولا يوجد معنى لفعل تقوم بعد أن يفوت أوانه.
انهار زياد على الكرسي وقال للموظف :
- ماذا يعني ذلك ؟ أليست هناك طريقة لتفادي العقاب. أقسم لك بالله أنني لم أقصد أي سوء من وراء امتناعي عن التوقيع.
قاطعه الموظف بإشارة من يديه وقال له :
- إننا لم نأتي بك إلى هنا لكي نعاقبك, وأنا بصراحة متعاطف معك تماما وأرى أنه من حقك أن تمتنع عن التوقيع ولقد لمست أن رفضك التوقيع سببه الخوف ولكن رؤسائي للأسف لم يتفقوا  معي وأصروا أن يتم التحري عنك والتفتيش في ملفاتك, ولقد فوجئنا عندما بحثنا عنك أن ملفك أبيض تماما, لا توجد كلمة واحدة مكتوبة فيه وهذا شيء نادر جدا لم يسبق لنا أن وجدناه , إنه كما لو كان أنك لست موجودا على وجه الأرض. أنا شخصيا وجدت هذا الأمر دليل على براءتك, ولكن رؤسائي وجدوه شيئًا مريبًا وغريبًا خاصة أن امتناعك عن التوقيع سابقة لم يفعلها أحد سوى عدد قليل جدا من الناس فالامتناع بالنسبة لهم يساوي المعارضة.
انتفض زياد من مكانه منفعلًا  ثم هز رأسه بالنفي :
- لا, صدقني أنا لست معارضًا, لا أفهم كيف يمكن أن يرى رؤسائك في شخص مثلي  يخاف من خياله مصدرًا للتهديد.
- للأسف, إن رؤسائي يرون النيران في مستصغر الشرر.
- ولكني مستعد لكي أثبت لكم أن لا نيران يمكن أن تأتي من ورائي.
عاد الموظف إلى الوراء مستندا إلى ظهر كرسيه ثم قال لزياد بنبرة صارمة :
- هناك طريقة واحدة لإنهاء المشكلة والإفراج عنك
- دلني عليها وسوف أنفذها فورا.
- أن توافق على دخول حجرة غسيل الدماغ. اطمئن, الأمر لن يستغرق سوى ساعة على الأكثر ولن تشعر بأي ألم وستخرج بعدها من الحجرة إنسانا جديدا, إنسانا هادئا سعيدا ومواطنا صالحا مطيعا.
كلام الموظف لم يُهدأ من عواصف الذعر التي اجتاحت عقل زياد, ولكنه استطاع أن يداري ذعره وأومأ برأسه موافقا, الموافقة في حالته ليست اختيارا, انه لم يعرف الاختيار في حياته, انه مجرد خادم ينفذ ما تأمره به الأقدار.
 لقد اكتشف كم هو جاهل وساذج لأنه حاول معاندة قدره وتصور أنه يستطيع أن ينفي وجوده حتى يتفادى هذا المصير.
تساءل كيف أن إنسان مثله بكل ضعفه وضآلته والأمراض التي تسكن جسده يمكن أن يشكل خطرًا على هذا الكيان العملاق ؟, لقد عاش حياته يخشاهم ولكن اتضح له أنهم يخشونه أكثر مما يخشاهم, إنهم يخشونه حتى في صمته وانعزاله.
هذه الفكرة جعلت  زياد يشعر بالزهو والاهمية فابتسم لنفسه, قبل أن يدخل الغرفة تمنى أن يحقق له غسيل الدماغ حلمه, وأن يخرج من الغرفة إنسانًا جديدا بالفعل ويصير كائنا لا مرئيًا حتى يستطيع أن يشعر بالأمن والأمان.

 







  


0 تعليقات