لماذا ينتحر الشباب ؟

  

سمعت كلمة "انتحار " لأول مرة وأنا طفلة, كنت أشاهد إحدى برامج المنوعات عندما رأيت المذيعة تتحدث عن الفنانة داليدا بحزن، وتذكر أنها انتحرت بعد صراع طويل مع الاكتئاب, صدقت تفسير الناس أن داليدا انتحرت لأنها ليست متدينة لأنني لم  أفهم  في ذلك الوقت  المعنى الحقيقي للاكتئاب.

 ظللت لفترة طويلة مقتنعة أن جميع  المنتحرين  أثرياء يعيشون في " الغرب الكافر " يعانون من الفراغ الروحي  بسبب ابتعادهم عن الله، كنت اعتقد أن المصريين لا  يلجئون للانتحار لأنهم " شعب متدين بطبعه".

  بعد أن كبرت ونضجت اكتشفت أن الانتحار أسبابه معقدة وأنه ليس بالضرورة علامة على عدم التدين وأن  المصريين مثل باقي شعوب العالم يقدمون على الانتحار، ولكن حالات الانتحار في مصر  تبقى  طي الكتمان بسبب خوف أهالي المنتحرين من إدانة المجتمع لأبنائهم.
 من الملاحظ  أن حالات الانتحار ازدادت في الفترة الأخيرة  حتى لم يعد يمر أسبوع بدون أن نقرأ خبر عن شخص شنق نفسه أو أشعل النار في جسده, والمخيف أن  أغلب المنتحرين  شباب لم يتخطوا العشرينات من أعمارهم ؟ السؤال  الذي يتبادر للأذهان هو لماذا ؟،  لماذا يقوم شخص بإنهاء حياته وهو لم يكد يبدأها بعد ؟، لماذا صار الانتحار هو الحل الوحيد لجميع مشاكل الشباب؟

الأسباب عديدة

1-  الاستخفاف بالأمراض النفسية والعقلية :

 الدراسات أثبتت أن الأمراض النفسية والعقلية  هي المسبب الرئيسي للانتحار, الأرقام أظهرت أن  بين 25 إلى 30 في المائة  من المصريين مصابين بالأمراض النفسية وأن هناك 15 في المائة مصابين بالاكتئاب,و على عكس الاعتقاد الشائع   فإن الأمراض النفسية لا تقل خطورة  عن الأمراض العضوية، فمرض مثل الاكتئاب يجعل الإنسان يفقد شهيته للحياة ويفقده القدرة على العمل والحركة ولكن استهانة الناس بالأمراض النفسية وتعاملهم مع المريض النفسي على أنه شخص مدلل ضعيف بلا إرادة او وزاع ديني تجعله   يقتنع أن لا أحد بإمكانه مساعدته، وبعد أن يستفحل مرضه و تصل آلامه إلى نقطة الذروة  يرى خلاصه في الموت.  

2 – البطالة والأزمات المادية :

 من الملاحظ أن أغلب من قاموا بالانتحار في الفترة الأخيرة كانوا يعانون من البطالة أو من ضائقة مالية مثل السائق الذي شنق نفسه على طريق مصر إسماعيلية الصحراوي, القرارات الاقتصادية القاسية التي تم اتخاذها مثل رفع الدعم عن الوقود أدت إلى ارتفاع الأسعار وإلى زيادة  الأزمات المادية بين الشباب الذي يعاني نصفه من البطالة والنصف الأخر الذي يعمل  يحصل على مرتبات هزيلة، البطالة و الأزمات المادية من أكبر مسببات الأزمات النفسية  خاصة عند الرجال فالرجل يستمد هويته وإحساسه بقيمته من الوظيفة التي يقوم بها،وعجزه عن  توفير قوت يومه واضطراره للاقتراض  والاستجداء أو الحصول على مساعدة من أهله يشعره بالفشل  والخزي والضآلة  وبأنه عالة على المجتمع وبأن حياته بلا قيمة.

3- الخوف والكراهية

" إحنا بنحارب أمريكا والاتحاد الأوروبي وإيران وتركيا وحماس وحزب الله والعالم كله، إحنا بنحارب العالم كله"

  هذه العبارة التي صرح بها إحدى جنرالات الفضائيات  تعبر عن حالة الهستيريا  التي انتشرت بين الناس كالنار في الهشيم بفضل وسائل الإعلام التي لا تتورع عن إنتاج خطابات التحريض والحشد  والاستعدا.
 الخوف هو المادة الخام للكراهية خاصة عندما يتفاعل معه الجهل، الخوف ألغى عقولنا وأفقدنا بصيرتنا، وجعلنا مهووسين بفكرة الإجماع والتوحد حول رأي واحد   حتى تحولنا إلى وحوش تبث سموم الكراهية على أي شخص يتبنى أراء معارضة.
 الخوف فرقنا وقسمنا وحولنا إلى أعداء حتى لأقرب الناس إلينا فأصبح الكثيرون يفضلون الانزواء والانعزال , ومن المعروف أن العزلة بيئة نشطة للأمراض النفسية.

4- اليأس

"مفيش عدل وأنا مدركة ده ومفيش أي نصر جاي , بس إحنا بنضحك ع نفسنا عشان نعرف نعيش "

هذه هي أخر عبارة كتبتها  الناشطة زينب مهدي قبل أن تنتحر, كلماتها تقطر يأسا وتشاؤما ولكن لنعترف أن كثير من الشباب يتفقون معها ويتبنون مثلها فلسفة " مفيش فايدة".
 من السهل أن نتهم هؤلاء الشباب بضعف العزيمة ولكننا لا يجب أن ننسى  أن هؤلاء الشباب أنفسهم  كانوا في  2011  يمتلئون بالثقة والتفاؤل والعزيمة والإرادة، لقد ضحى الكثير منهم بأنفسهم  من أجل أن تتغير البلد وتنهض وتصير وطنا صالحا للحياة الآدمية. ولكنهم اكتشفوا أن هذه التضحيات ليست كافية وأن النظام الذي حاولوا  إزاحته يعود بشكل أقوى وأكثر توحشا  لينتقم منهم بقتلهم وإلقائهم في السجون والمعتقلات، لقد دمرهم الشعور بالظلم  مما أدى إلى  وقوعهم في دوامة اليأس والتشاؤم والأمراض النفسية.

حالات الانتحار المتزايدة هي علامة خطيرة تشير إلى مدى تدهور ظروف الحياة  في مصر ,  وهي جرس إنذار غرضه التنبيه إلى حتمية التغيير، فالأمم التي لا تتغير وتتطور تموت وتفنى هذا التغيير لن يحدث فجأة بل سيستغرق مدة طويلة, وإلى أن  يحدث هذا التغيير يجب أن ندرك أن ثقافة " يلا نفسي" و " أنا ومن بعدي الطوفان "  لن تجدي نفعًا ,لا يوجد إنسان يستطيع  أن يعيش بمفرده , الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع أن ينفصل عن أبناء جنسه, سعادة كل شخص مرتبطة بسعادة من حوله  لأنك لن تستطيع أن سعيدا في مجتمع مليء بالتعساء والبائسين واليائسين.
بالطبع من المستحيل أن نقضي على البؤس  تماما ولكننا يمكن أن نقلل من حدته  بزيادة جرعة الرحمة والتعاطف,  إذا وقع أحد أفراد المجتمع في أزمة نفسية أو مادية فمن الواجب علينا أن نسارع في إنقاذه ومساعدته  بدلا من أن  نتجاهله أو أن ندير ظهورنا له.
التكاتف والتعاون والتكافل أهم الأسلحة  المتوافرة أمامنا للتغلب على مشاكل الحياة.