التعود يجعل الأشياء الجميلة عادية والأشياء القبيحة مقبولة

كان اليوم  هو ثاني أيام عيد الأضحى وكنت أشعر بالضجر من الجلوس في المنزل  , قررت أن أنزل  لأتمشى قليلا  وأشاهد المدينة في العيد, لم أنزعج عندما وجدت طوفانا  من البشر والسيارات يملأ الشوارع فالزحام سمة أساسية للعيد, ولكن هناك شيئا أخر أفسد علي  نزهتي الصغيرة, تسللت إلى أنفي رائحة كريهة جعلتني أرغب في التقيؤ , عرفت مصدر الرائحة عندما رأيت  أتلالا  وأكواما من القمامة  مكومة في الشوارع والحشرات تحتفل حولها ,غطيت أنفي بيدي   نظرت إلى المارة  من حولي فرأيتهم يسيرون بجوار أتلال القمامة في هدوء  وعلى وجوههم ابتسامات عريضة  كأنهم يسيرون بجوار حديقة غناء , أثارت ابتساماتهم صدمتي وسألت نفسي هل العيب في أنفي أم في أنوفهم؟
 أدركت أنني لم  أحتمل السير بجوار القمامة مثلهم ليس  لأنني أمتلك حاسة شم قوية ولكن لأن  قدرة الناس على التقزز  من رائحة  القمامة اختفت  بعد أن  تعودوا على شمها  لمدة طويلة, فالإنسان يملك قدرة سريعة  على التكيف مع تغييرات البيئة المحيطة به , وهذا ما يجعله قادرا على  تحمل الحرارة والصقيع والضجيج والظلام والزحام, مشكلة التعود إنه  يجعل الأشياء الجميلة عادية والأشياء القبيحة مقبولة  ,التعود  يجعلك تتوقف عن الانتباه لصوت القطار إذا كنت تسكن بجواره  و يجعلك تتوقف عن الانبهار بمنظر البحر إذا كنت تسكن أمامه ,  كما أن قدرة الإنسان على التعود قد تبلغ أحيانا مراحل خطيرة ومرعبة.  
يحكي  الكاتب السوري ممدوح عدوان في كتابه المهم " حيونة الإنسان "  قصة عن رياضيين تحطمت طيارتهم في جبال الانديز وقضوا أياما طويلة في البرد والصقيع  , بعد أن انتهى كل  ما للناجين من الطعام نصحهم أحد زملائهم وهو طالب طب أن عليهم أن يتناولوا البروتين لكي يتمكنوا من مقاومة البرد والبقاء على قيد الحياة وليس هناك مصدر لذلك البروتين إلا جثث زملائهم وأهلهم الذين قتلوا في الحادث, كما أن عليهم الإسراع بنبش الجثث لأن تراكم الثلوج وضعفهم  يزيد من  صعوبة وصولهم للجثث , قال  الطيار الذي أنقذهم  إنه حين أطل على مكان وجود الأحياء الناجين رأى أمامه عظاما آدمية متناثرة على مدى النظر وكأن قطعيا من الوحوش المفترسة قد داهم تجمعا بشريا, حين استغرب الطيار مما فعلوه  استغربوا من استغرابه فلقد أكلوا كل جثة استطاعوا إخراجها من الثلوج ومن بينها أهلهم وزوجاتهم, لقد استغربوا من استغرابه لأنه لم يتعود على الأمر بينما هم لم يتعودوا على الأمر وتآلفوا معه.
هذه القصة تظهر السرعة التي يمكن أن يتعود بها الإنسان مع أي شيء مهما بلغت بشاعته و  فظاعته في سبيل أن يبقى على قيد الحياة ,البقاء هو هدف  الإنسان الأهم و الرغبة في البقاء هي التي جعلت الناس يتآلفون مع رائحة القمامة مثلما جعلتهم يتآلفون مع كل شيء قبيح وفاسد حولهم, فكلمة " عادي " صارت  تلتصق بسرعة  بكل شيء خاطئ  يقع أمامنا,عادي أن تستيقظ يوميا على خبر انفجار أو حادثة, عادي أن يركب ابنك اتوبيس المدرسة ثم يخرج منه جثة متفحمة, عادي أن يتم القبض عليك لأنك تقرأ كتابا أو لأنك ترتدي تيشيرت شكله غريب, عادي  أن تتعرض سيارتك للسرقة ثم تجد البوليس يطلب منك  أن تتفاوض مع اللص.
تكيفنا  مع الواقع القبيح جعلنا  نتوقف عن الاندهاش من الظلم والفساد والانحطاط ,  وقتل بداخلنا أشياء كثيرة,  قتل ضميرنا ومبادئنا وقيمنا وجعل فطرتنا  تلتوي فأصبحنا نرى الخطأ صوابا و القبح جمالا والجبن ذكاءً والخداع شطارة والنفاق مجاملة واليأس حكمة والخضوع احتراما, بل أصبحنا  نلوم المظلوم إذا طالب بحقه,  ونلوم الضحايا لأنهم يشتكون ويعترضون لأننا نريدهم أن يعانوا ويتألموا في صمت, و نهاجم من يفكرون في التمرد على الواقع وتغييره ونشكك في نواياهم وأهدافهم ونراهم أعداءً للوطن, ذلك لأنهم  فشلوا في تقبل رائحة العفن مثلنا بصدر رحب.
الشيء الذي لا ندركه  هو أن تكيفنا مع الواقع  لن يحافظ على بقائنا لأن الواقع  يزداد قبحا وسوءا وانحطاطا  كل يوم, لقد تحول الواقع إلى وحش, وحش يخرب كل شيء  في الوطن, وحش   يتغذى على دماء أطفالنا وشبابنا, وحش لا يعشق إلا  اللون الأسود ولا يطربه إلا صوت البكاء والنحيب ولا يسعده إلا الجلوس في سرادق العزاء,  فمتى سنفيق ومتى سندرك أن التكيف مع الواقع هو السبب في بؤسنا وأنه سيكون السبب في فنائنا؟, متى سندرك أن الهروب والإنكار والتعود ليس الحل وأن  السبيل الوحيد أمامنا للانتصار في معركة البقاء هو التغيير؟.

0 تعليقات