كانت تلك السيدة تجلس بجواري في إحدى الأماكن العامة حاولت أن تتعرف علي  , سألتني بفضول" بتعملي  إيه في حياتك ؟" شعرت بالحرج وأنا أقول لها أنني أكتب " قصص  قصيرة وروايات  " .
 سألتني بحماس " بتكسبي منها كويس ؟",  اعترفت لها  أنني لا أكسب شيئا من الكتابة بل بالعكس أدفع من أجل أنشر كتاباتي  " , تطلعت لي بشفقة ثم قالت لي " طب إيه لازمتها  ما  تشوفي لك حاجة تأكلك عيش بدل لما تضيعي وقتك " .
 أطرقت برأسي في الأرض وأنا أشعر بالألم ثم شعرت أنني يجب أن أستمع لنصيحة تلك السيدة وأتوقف عن الكتابة نهائيا.
 فكرة التوقف عن الكتابة تلاحقني في كل لحظة ,  فقبل أن أشرع في كتابة أي شيء   تهاجمني تلك الأسئلة المحيرة  لماذا تقضين كل هذه الساعات تفكرين وتبحثين , لماذا تبذلين كل هذا المجهود من أجل كتابة قصص ومقالات وروايات لن يهتم سوى عدد محدود جدا من الناس بقراءتها ولن تدر عليكي أي نفع مادي  , ابحثي عن شيء أنفع تقضين  وقتك فيه,   ولكني أحاول أن أتجاهل الرد على هذه الأسئلة  , أواصل  الكتابة رغم  أنني أشعر وأنا أكتب أنني أقف وحيدة في صحراء جرداء أصرخ فلا يسمعني سوى صدى صوتي , أواصل  الكتابة رغم أنني  أدرك جيدا أنني  أعيش في دولة  تخنق الحريات والإبداع وتحتقر الثقافة والأدب والفن , دولة أغلب سكانها ينفرون من القراءة ويعتبرونها وجع دماغ أو رفاهية عقلية لا يستطيعون تحملها, أواصل  الكتابة رغم أنني أعلم أن جمهوري مهما زاد سيظل محدودا  وأن احتمال تحولي إلى كاتبة كبيرة أو مهمة واحتمال حصولي علي أي عائد مادي أو معنوي من الكتابة شبه معدوم.
فكرة التوقف عن الكتابة  لاحقتني  عدة مرات منذ بداية  مشواري الأدبي , لاحقتني أول مرة بعد أن قرأ إحدى أقاربي أول قصة قصيرة كتبتها  ثم تطلع إلي بحنق وقال لي " قصتك مملة قوي,انتي مش موهوبة زي يوسف إدريس  "  , لاحقتني بعد أن وجدت أهلي يتهموني بالكسل و العزلة والانطواء  لأنني رفضت أن أعمل في وظائف أكرهها  وفضلت أن أقضي حياتي في حجرتي أفكر وأقرأ وأكتب, لاحقتني بعد أن  اشتركت في إحدى الجمعيات الثقافية ثم اكتشفت أن إدارتها يهتمون بتجميع قيمة الاشتراك من الأعضاء  أكثر من اهتمامهم بقراءة أعمال الأعضاء وتوجهيهم  ومساعدتهم في نشر أعمالهم , لاحقتني  بعد أن  عرضت مجموعتي القصصية على دور النشر فوجدت أحد الناشرين  يلقيها لشهور طويلة في مكتبه بدون أن يهتم بإلقاء نظرة واحدة عليها  , بينما  رفضها ناشر أخر  لأنها مكتوبة بطريقة كلاسيكية  بمعنى أنها مكتوبة بلغة عربية فصحى " وليست بالأسلوب العامي الحديث.
بعد هذا  الموقف  أصبت بإحباط شديد و عجزت  عن الكتابة تماما لعدة سنوات , شعرت بفراغ نفسي كبير خلال تلك الفترة  , شعرت أن هناك شيئا هاما ينقصني  ثم عادت لي  الرغبة في الكتابة مجددا  ,شعرت أنني يجب أن أقاوم اليأس والإحباط وأستمر بصورة أخرى  عن طريق التدوين, نشرت  قصصي ومقالاتي وخواطري على المدونة على أمل أن أجد الجمهور الذي يتفاعل معي ولكني اكتشفت أن زمن المدونات ولى  وأن الزمن الحالي هو زمن البوستات الساخرة  اللطيفة القصيرة المكتوبة بالعامية المبتذلة على الفيس بوك , ومع ذلك حاولت أن أستمر وأن أشارك في المسابقات الأدبية وأن أروج لتدويناتي على وسائل التواصل الاجتماعي وأن أحاول كتابة رواية طويلة.
وبعد عذاب ومعاناة  فازت إحدى قصصي القصيرة في مسابقة أدبية و  نجحت في كتابة روايتي الأولى بنت وولد ورغم نجاحي في نشرها وصدور الطبعة الثانية منها  عادت فكرة التوقف عن الكتابة تراودني  بعد أن  دخلت الوسط الأدبي واكتشفت   حقائق صادمة  , اكتشفت أن سوق الكتب تمتلئ بروايات وقصص ودواوين رائعة لم ولن يقرأها أحد بسبب كثرة الناشرين الذين  يعدون شباب الكتاب  بالنجاح الأدبي والمادي  و يأخذون منهم أموالا طائلة  ثم يتقاعسون عن التوزيع والترويج لكتبهم فيصبح صدور الكتاب مثل عدمه,  اكتشفت أن الكتابة  ليست رسالة بالنسبة للناشرين  وأصحاب مطابع وأصحاب المكتبات فكل هؤلاء الأطراف يحصلون على مكاسب مادية محترمة ,   أما  الكاتب فهو الطرف الخاسر الوحيد  في هذه العملية رغم أنه صاحب الكتاب  وهو مجبر القبول بالخسارة المادية أو المكسب المحدود  إذا أراد أن يكون أديبا. اكتشفت أن معايير النجاح الأدبي والتجاري  لا تعتمد على موهبة الكاتب أو اجتهاده بقدر ما يعتمد على قدرته على ترويج كتاباته بالانضمام إلى الشلل الأدبية والتقرب من  أصحاب النفوذ  في الوسط الثقافي والإعلامي والتزلف إليهم.
ورغم أن تعدد أسباب التوقف عن الكتابة  وقلة أسباب الاستمرار  إلا أنني لم أقو  حتى الآن على الاستجابة إلى نداء عقلي وإراحة أعصابي من الكتابة وأوجاعها  للأبد ,  دائما أعطي نفسي أسبابا للاستمرار , دائما  أوحي لنفسي أن مجهودي لن يضيع وكتاباتي لن يطويها النسيان  لأن تأثير الكلمات يتخطى المكان والزمان , إني لا أكتب من أجل جمهور هذا العصر المظلم الكئيب,  إني أكتب لأشخاص  سيولدون بعد موتي , سيقرؤون كتاباتي وستحركهم كلماتي  وستدفعهم لتغيير العالم للأفضل, أوحي لنفسي أن تأثيري رغم محدوديته شديد الأهمية  فالتأثير على شخص واحد  يعادل التأثير على مائة شخص لأن هذا الشخص الواحد باستطاعته أن يؤثر على المحيطين به وهكذا تتسع دائرة التأثير تدريجيا, و رغم   أن تغيير العالم إلى الأفضل وإنارة عقول الناس أمر مهم إلا أنني أشعر أن هذا ليس هدفي فعلا من الكتابة  ,لقد فهمت سبب عدم قدرتي على التوقف عن الكتابة بعد أن قرأت رسالة  كتبها  الأديب وليام سارويان في رسالة كتبها إلى أديب ناشئ  وقال له في أخرها " 
لو  منعك أو أوشك أن يمنعك شيء في العالم , حرب أو مجاعة أو باء أو جوع شخصي فلا تكتب ولا تحاول الكتابة , انس الكتابة, كن موظفا شريفا , واذهب إلى دور السينما واحلم واستيقظ فإذا وجد  ما يمكنه أن يمنعك عن الكتابة فأنت لست كاتبا وسوف تتردي في دوامة الجحيم حتى تفيق "
لقد اكتشفت أن الكتابة بالنسبة لي  ليست هواية لطيفة مثل شغل التريكو أو تنسيق الزهور وأنني لا أكتب من أجل الحصول على منصب ثقافي أو جائزة مادية في مسابقة كبرى أو حتى تتحول روايتي لفيلم سينمائي , هناك  قوى أكبر وأهم مني تدفعني للكتابة  ,  تلك القوى هي التي تجعل الأفكار والكلمات تنهال على رأسي والشخصيات تتراءى في مخيلتي, إن الكتابة هي   قدري لا أستطيع الفكاك منه,  إنها  الشيء الوحيد الذي استمتع بفعله والشيء الوحيد الذي يعطيني الإحساس بأنني على قيد الحياة, لذلك قررت أن أتوقف عن التفكير في أسباب استمراري في الكتابة وأن أكتب بدون أن أنتظر عائد أو رد فعل أو مدح أو نقد  مثلما يستمر النحل في إنتاج العسل  بدون أن ينتظر شكر أو 
عرفان من البشر لأن إنتاج العسل هو سبب وجوده في الحياة.
التدوينة موجودة أيضا في مدونتي الجديدة يوميات كاتبة 

0 تعليقات