سلسلة متوالية من الغضب
1-
تفجر وجه عبد
المجيد بسيوني غضباً
وهو يجلس في مكتبه
صباحا عندما لم يقرأ اسمه بين
الأسماء المرشحة في التغيير الوزاري
المرتقب.
لقد كان ضحية خدعة كبرى من رئيسه النصاب الذي وعده بالكرسي ثم
أعطاه لصهره .
هذه ليست أول مرة يتعرض لخدعة من هذا النوع ثم يضطر أن يصمت ويبتلع غضبه .
ولكن هذه المرة لا يجب أن تمر مثل المرات السابقة .
لابد أن يتحرك بسرعة ويرد لهذا الرجل الصاع
صاعين .
كان يعلم أنه
لو قدم المستندات التي يحتفظ بها
في خزانته للنائب العام سيتمكن من
الإطاحة برأسه وبرؤوس كثيرة , و لكن عليه أن يأخذ حذره ولا يتهور فربما يملك
هذا الشيطان مستندات ضده .
فليصبر
وينتظر حتى تأتي الفرصة المناسبة
للانقضاض والثأر , ولكنه صبر و صادق
الصبر حتى مل الصبر منه ثم اكتشف أنه أهدر
عمره كله في الانتظار حتى قارب على
الستين .
كل من حوله يترأسون الوزارات الكبرى و يحصلون على مئات الآلاف شهرياً وهو لا يحصل على أكثر من عشرين ألفاً . لقد ظلم نفسه عندما قبل
رئاسة هذه الهيئة الفقيرة والمشكلة أن أوان التراجع ولى .
أخذ عبد المجيد يفحص الأوراق الملقاة
أمامه بعصبية ثم رفع السماعة و طلب من
مدير مكتبه أن يستدعي سمير صادق . اتصل
به مدير مكتبه ليخبره أن سميراً لم يصل بعد .نظر عبد المجيد إلى الساعة فوجدها تقترب من
العاشرة صباحا .
ازدادت حدة غضبه و صاح في مدير مكتبه " أول لما يوصل سمير خليه يجيلي على طول
"
2-
اهتزت قدمي سمير صادق عندما دخل مكتب
عبد المجيد بسيوني رئيس الهيئة و رأى لهيب الغضب يتقافز في عينيه
ضرب عبد المجيد يده على
الساعة وهو يصيح بصوت الجهوري
- الساعة عشرة يا أستاذ , ليه تعبت نفسك وجيت بدري
ما كنت تيجي الساعة واحدة أحسن
تعثر سمير
في الكلمات وهو يرد عليه معتذرا
-
معلش يا فندم أصل الطريق كان زحمة جدا
.
-
ما هو زحمة علينا كلنا ومع ذلك أنا وصلت في ميعادي بالضبط لأني بصحي بدري
مش كسلان زيك مشكلتنا في البلد دي هي احترام
الوقت لكن طول ما فيه ناس زيك مش بتحترم مواعيد شغلها البلد عمرها ما
هتتقدم .
مخصوم منك أسبوع علشان تتعلم تصحي بدري وتحترم مواعيد الشغل . يلا
امشي اطلع بره .
غادر سمير صادق مكتب رئيس الهيئة وتوجه
إلى مكتبه وقد اكتسى وجهه باللون الأحمر القاني كأنه تعرض لصفعات متوالية على وجهه
.
أحس أن دمائه ستنفجر من رأسه عندما
اكتشف أن الرجل خصم من مرتبه الذي يبلغ عشرة ألاف جنية ألفين جنية
و كل ذلك لأنه تأخر ساعة في الوصول لمكتبه ؟ .
وكيف تأتيه الجرأة أصلا لكي يعطيه
محاضرة عن أهمية احترام الوقت وهو لم يراه يصل
للهيئة في موعده أبداً وإن جاء فإنه لا يظل في مكتبه لأكثر من ساعة .
إنه
يقضي أغلب وقته مستشاراً في إحدى اللجان الحكومية التي يحصل منها على ألوف مؤلفة و
يتركه يتولى مهام عمله بدلا منه
, وفي النهاية يكافئه على اجتهاده
بأن يخصم من مرتبه .
لقد ظلم نفسه وأهدر طاقته وموهبته
لأنه قبل العمل في هذه الهيئة تحت
إمرة شخص حقير مثل عبد المجيد بسيوني.
كان من المفترض أن يحذو حذو زملائه وأقاربه ويحصل على
عقد عمل في الخليج أو يهاجر لإحدى الدول المتقدمة و لكن المشكلة أن أوان التغيير قد فات .
3-
بينما كان سمير مشغولا في رثاء نفسه سمع طرقات على الباب ثم رأى حسنين متولي أحد الموظفين عنده يدخل عليه ويحييه وعلى وجهه ابتسامة عريضة .
رد سمير التحية بنفاذ صبر ثم سأله عن ما يريد
. سأله حسنين عن مصير الطلب الذي تقدم به من أجل شراء أجهزة كمبيوتر جديدة .
أخذ سمير يحك ذقنه ثم قطب جبينه و قال له
- مش فاكر إنك قدمت لي طلب زي ده .
ظل حسنين متمسكا بابتسامته وهو يحاول
أن يُذكر سمير أنه تقدم بهذا الطلب من أكثر من شهر وأنه وعده بالموافقة عليه .
رد عليه سمير محتداً
-
قلت لك مش فاكر بس عموما طلبك مرفوض لأن الهيئة مفيش فيها فلوس .
بدا الشحوب على وجه حسنين ثم أخبر رئيسه أن أجهزة الكمبيوتر الموجودة حاليا معطلة
ومنتهية الصلاحية وأنه لابد من شراء غيرها
لأنها تسهل العمل عليه وعلى باقي الموظفين .
أخذ سامي يطرق على مكتبه بعنف وهو يصيح
في حسنين
- قلت لك الهيئة مفيش فيها فلوس عايزيني أجيب لك تمن الكمبيوتر من جيبي
يعني
اشتغلوا زي أيام زمان بالورقة والقلم والدفتر
وبعدين انتم بتشتغلوا أصلا انت
و اللي زيك شغلتكم تاكلوا وتشربوا
وترغوا في كلام فاضي وفي الأخر بتقبضوا
مرتب قد كده .
لما تبقوا تجتهدوا وتعملوا شغلكم صح
نبقى نوافق إننا نشتري لكم كمبيوترات جديدة .
بقولك إيه أنا عندي صداع
ومش ناقصك يلا امشي اطلع بره .
4-
عض حسنين
على شفتيه غضبا وهو يتطلع في شاشة الكمبيوتر القديم المغطي بالأتربة ثم أخذ يسأل نفسه لماذا
صب عليه سمير جام غضبه ويعامله
كأنه خادم عنده لمجرد أنه قدم له طلبا مشروعاً ؟ وكيف يدعي أن الهيئة ليس فيها نقود , والكل يعلم
أن الهيئة تكسب الملايين ولكن هذه
الملايين لا تعرف طريقها إلا إلى
جيوب الكبار وهو بالتأكيد منهم .
وكيف يجرؤ على إعطاؤه درسا عن الاجتهاد في العمل وهو أكثر الموظفين اجتهاداً في هذه
الهيئة رغم أن مرتبه لا يزيد عن ألف
وخمسمائة ؟.
ربما عليه أن يتوقف عن العمل طالما أنه
يعمل في مكان لا يقدر إلا لاحسي
الأحذية .
بينما كان حسنين مشغولا في التحسر على حاله دخلت عليه المكتب سيدة محجبة
في منتصف العمر ترتدي فستانا أسود وتحمل في يدها رزمة من الأوراق .
ألقت عليه السلام فرد عليها
بصوت فاتر . قدمت له
الأوراق التي تحملها وأخبرته أن
زوجها كان موظفاً في الهيئة وأنه توفي من
شهرين وأنها أنهت كل الأوراق الخاصة بإعلام الوراثة وإجراءات صرف المعاش وتريده
أن يحصل على إمضاء رئيس الهيئة حتى تستطيع أن تصرف معاش زوجها
رمي بصره سريعا على الأوراق ثم هز رأسه باستهانة وهو يرشف من كوب الشاي
الموضوع أمامه وأخبرها أن رئيس الهيئة ليس موجوداً.
سألته برجاء
- طيب
مفيش حد تاني ممكن أنه يمضي مكانه أصلي اخلص الورق بسرعة لأني محتاجة فلوس المعاش
جدا .
كان حسنين يعلم أن بإمكانه أن يحصل على
توقيع سمير صادق بدلا من رئيس الهيئة ولكنه لم يكن لديه استعداد لاحتمال رؤية
وجه هذا الرجل مجدداً لذلك طلب منها أن تأتي في يوم أخر .
عادت السيدة تذكر
حسنين أن حياتها متوقفة على المعاش ولكنه
زمجر في وجهها وأمرها بالانصراف لأن ليس لديه وقتا ليضيعه مع أمثالها .
5-
وقفت
راجية أمام مبني الهيئة تمسح العرق المتفصد من رأسها وتحاول أن تمنع الدموع المحبوسة في عينيها من الانزلاق
علي وجهها .
فتحت حقيبتها بحثا عن دواء الضغط وبعد أن عثرت
على الشريط أخرجت منه قرصا صغيرا وابتلعته
سريعا .
وبينما كانت تقف في الأتوبيس في طريق العودة لمنزلها أخذت تتساءل
كيف ولماذا أصبح لهذا الموظف الوضيع القدرة على التحكم في مصائر الناس
وحياتهم حتى يحرمهم من النقود التي يستحقونها بل ويطردهم من مكتبه كأنهم حيوانات ضالة .
إنها ليست شحاذة , إنها جاءت لتحصل على
أبسط حقوقها وحقوق زوجها المرحوم عبد
المنعم الذي أفني كل عمره في الهيئة وفي النهاية لم يصل معاشه منها إلى 800 جنية .
لو كان المرحوم
تركها تعمل ولم يصر على استقالتها لما تدهور حالها إلى هذه الدرجة . لقد صارت تخاف
أن تقابل أي أحد من معارفها وجيرانها حتى لا يطالبونها بسداد ما عليها من
ديون , وهي الآن لا تعرف كيف ستدبر أمورها
هي وابنتها حتى الشهر القادم .
دخلت راجية شقتها فوجدت ابنتها مايا
تجلس أمام التليفزيون تشاهد الكارتون
وتأكل الفيشار .
جزت راجية على أسنانها غيظا ثم جرت على التليفزيون وقامت بإطفائه .
قفزت مايا من كرسيها مفزوعة وسألت أمها " هو فيه إيه ؟
- فيه إنك مش بتذاكري خالص ومضيعة كل
وقتك قدام التليفزيون . انتي مش عارفة أنا بعمل إيه علشان تتعلمي وانتي مش بتعملي
اللي عليكي .
اعترضت مايا على اتهامات والدتها
- والله يا ماما أنا بذاكر بس كنت بستريح شوية .
فتحت راجية إحدى كراسات مايا وأخذت تنظر لواجباتها . قذفتها بالكراسات وصاحت فيها
- كل المسائل اللي انتي كتباها
غلط . انتي غبية وعمرك ما هتفلحي .
المفروض اني اقعدك في البيت أحسن وأوفر
فلوس تعليمك . يلا غوري من وشي أنا مش طايقاكي .
6-
جرت مايا على حجرتها وأغلقتها عليها وهي تنتحب . وقعت عيناها على دبها الصغير ميمي .
رأته يرمقها بنظرة لائمة تشبه نظرة أمها . اقتربت منه وأمسكته بعنف ثم أخذت تسدد له
اللكمات في وجهه . طوحته في الهواء ثم
تركته يسقط على الأرض .
قذفته بقدميها عدة مرات كأنه كرة و
رأته يتدحرج على الأرض . تلاحقت أنفاسها وأحست بسخونة في جسدها . جلست على طرف
فراشها تحملق في ميمي .
لاحظت أن هناك ثقبا في ذراعه . جرت
عليه ورفعته من الأرض وأخذت تفحص الثقب .
تملكها الخوف عندما رأت قطعة قطن صغيرة تبرز من الثقب .
لامت نفسها على ما فعلته في حق ميمي . إنه
ليس مجرد لعبة اشتراها لها والدها المرحوم قبل أن يموت ولكنه صديقها الحقيقي
الوحيد . احتضنت ميمي بقوة وأخذت تعتذر له بحرارة و أخذت تحكي له عن ما فعلته أمها
في حقها .
أحست وهي تحتضنه أن ذراعيه تربت عليها بحنو وأن
جسده الصغير المحشو بالقطن يمتص الغضب الذي انتقل إليها من أمها . عاد لها هدوئها فوضعته بجوارها في الفراش ونامت .
0 تعليقات
رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته