قديما كان الناس يتعاملون مع الاكتئاب بوصفه حالة مزاجية سيئة تصيب نخبة من الأشخاص المرفهين يتسمون بضعف الإرادة وقلة الإيمان ولكن تلك النظرة بدأت تتغير وبدأ الناس يتعاملون مع الاكتئاب بشكل أكثر جدية وبوصفه مرض حقيقي بعد أن صار  منتشرا في جميع أنحاء العالم بشكل مخيف. لقد تم تصنيف الاكتئاب  كثاني أكبر مرض في العالم كما أن نسبة الشباب المنتحرين بسببه في زيادة مستمرة  والمصابين بالاكتئاب في مصر حسب الاحصائيات يبلغ عددهم 1,5 شخص وربما يكون الرقم الحقيقي أكبر من ذلك لأن معظم المصابين بالأمراض النفسية في مجتمعنا يخافون من الذهاب للطبيب. يكفي أن تنظر حولك لكي تتأكد مدى انتشار الاكتئاب والأفكار السوداوية  بين الناس كالوباء , رغم أننا  نعاني من قلة الدراسات  العربية  التي تتحدث عن هذا المرض وتفسر سبب انتشاره في مجتمعاتنا العربية إلا أنني من عدة سنوات وجدت كتابا في غاية الأهمية يتحدث عن هذا المرض للطبيب النفسي المصري الدكتور عبد الستار ابراهيم , الكتاب يحمل عنوان  " الاكتئاب –اضطراب العصر الحديث  فهمه وأساليب علاجه,   صدر  الكتاب عن سلسلة عالم المعرفة من المجلس الثقافي الكويتي وهو من أهم الكتب التي تقدم التوعية للقارئ العربي بحقيقة هذا المرض وأعراضه وطرق العلاج منه . الكتاب في مجمله مهم وضروري لأي قارئ أن يطلع عليه سواء كان مصابا بالاكتئاب أم لا , ولكني اعتقد أن أفضل فصل في الكتاب هو الفصل الذي تحدث فيه المؤلف عن الأنماط الفكرية التي تؤدي بالإنسان إلى الاكتئاب ولذلك قررت اختصار هذا الفصل وإعادة صياغته وعرضه في هذا المقال  في محاولة لنشر المعلومات الواردة فيه بين الجميع .
المصابون بالاكتئاب يعتقدون أن اكتئابهم يعود إلى الظروف الخارجية والمشاكل التي يعانون منها في الحياة ولكن الدراسات والأبحاث أثبتت أن  من إحدى الأسباب الرئيسية المؤدية للاكتئاب هي الطرق التي يفسر بها الإنسان الظروف والحوادث التي يتعرض لها ,  إدراك الإنسان للواقع ليس محايدا ,  كل إنسان يملك أنماط فكرية أو طرق معينة في التفكير وهي الأنماط هي التي تساعده على إدراك الواقع وتفسيره بصورة معينة سواء كانت سلبية أو  إيجابية وفي السطور التالية سنفهم  أكثر   الأنماط الفكرية السائدة بين المكتئبين والتي تتسم بعدم المنطقية والمبالغة والتطرف الفكري رغم أنها  سائدة ومقبولة بين كثير من الناس.

التهويل والتهوين :
تؤكد الدراسات والأبحاث أن المصابين بالاكتئاب لديهم ميل إلى المبالغة في التفسير السلبي لأي شيء يحدث لهم والمبالغة في القلق من المستقبل. الشخص المكتئب بطبيعته شخص متشائم يتوقع الأسوأ لنفسه ولكل من حوله ويبالغ في التعامل مع العالم الخارجي , فأي خطر بسيط يتعرض له يراه كارثة كبرى ستدمر حياته  وأي نقد يتعرض له يعتبره إهانة فادحة  وأي خطأ يرتكبه يعتبره جريمة لا تغتفر, لذا لا عجب أن تجد أن هناك كثير من الأشخاص يقومون بالانتحار بسبب قصة حب فاشلة أو بسبب رسوبهم في الامتحان ,فهذه العثرات التي يتعرض لها كل الناس يراها المكتئبون  مصيبة مدمرة تجعلهم يشعرون بالخزي والعار ويرفضون البقاء على قيد الحياة , على صعيد آخر فإن المكتئب عادة ما يقلل من قيمة الأحداث الإيجابية التي تمر عليه وقيمة الانجازات التي يقوم بها كما  ويقلل من مزاياه  ويبالغ في إدراكه لعيوبه, انه  يرى نفسه دائما في صورة سلبية على عكس بقية الناس الذين عادة ما يقللون من عيوبهم ويبالغون في إدراك مزاياهم وبتالي يظلون محافظين على صحتهم النفسية.
التعميم :
" كل الرجال خونة ", " كل النساء أنانيات "  , هذه الأحكام التي نسمعها ونقرأها كثيرا تحمل خطأ التعميم وهو من أكبر الأخطاء المنطقية التي يقوم بها كثير من الناس, فإذا تعرض أحدنا لأي تجربة سلبية في دولة معينة  فإننا سرعان ما نصدر حكم تعميمي  بالسلب عن كل الناس المنتمين إلى هذه الدولة   , والإنسان المكتئب عادة ما يميل إلى التعميم في إدراكه للآخرين ولنفسه , إنه يعتقد أن أي  تجربة سيئة تعرض لها ستتكرر دائما , فإذا فشل في عمل شيء ما يعتقد أنه انسان فاشل عاجز عن تحقيق أحلامه وإذا رفضته فتاة يعتقد أن كل  الفتيات سيرفضونه ,   خوفه من الرفض  يجعله يلجأ إلى التعميم الذي يؤدي إلى حرمانه من  تجارب الحياة , المكتئب لا يدرك أن  لا شيء في الحياة  أكيد تماما أو قاطع تماما وأن تجربة  واحدة لا يصح أن تكون مصدر لإصدار حكم عام على كل الناس والأشياء.
الكل أو لا شيء :
يميل بعض الأشخاص خصوصا في مجتمعنا العربي إلى التطرف الفكري والذي يجعلهم يرون كل الأشياء إما بيضاء أو سوداء, حسنة أو سيئة  والناس إما أخيار أو أشرار. إنهم يعجزون عن رؤية ألوان الطيف الأخرى بين الأبيض والأسود  كما يعجزون عن إدراك أن الأمور السيئة ربما تؤدي إلى  نتائج طيبة في المستقبل, هذا التطرف الفكري والتصلب في الرؤية  يجعلهم يصدرون أحكاما قاطعة على أنفسهم وعلى الحياة , عادة ما تجد الشخص المكتئب يصف حياته بأنها لا تطاق أو أن عمله لا يرجى من ورائه أي فائدة, ويرى الباحثون أن هناك ثلاثة معتقدات تتسم بالتطرف واللاعقلانية وتجعل حياتنا مضطربة ومحبطة وهي:
- الرغبة في الحصول  على  الدعم والتأييد من الآخرين طوال الوقت بدلا من التركيز على احترام الذات أو على تحقيق أهداف صغيرة في حياتنا أو  التفكير في دعم الآخرين وتقديم الحب لهم بدلا من انتظار الدعم منهم .
- التوقع  أن يعاملنا الناس كما نريد بدلا من أن ندرك أن الناس قد يتصرفون بطرق غير ملائمة لنا بسبب تضارب المصالح أو بسبب غبائهم أو جهلهم.
- أننا نريد أن تكون الظروف ممهدة لنا حتى نحصل على كل ما نريده في الوقت المناسب لنا بدلا من أن ندرك أن الحياة لا تدور حولنا 
وأن الرياح تأتي أحيانا بما لا تشتهي السفن, وبالتالي علينا  أن نعدل أهدافنا ونتأقلم مع الظروف المحيطة بنا بدلا من أن نلعن العالم  لأنه لم يعطينا ما نريده.
التطرف الفكري يرتبط أيضا بالنزوع إلى الكمال المطلق , فالمكتئب يضع لنفسه أهدافا غير واقعية ومستحيلة ولذلك عندما يرتكب أي خطأ أو يعجز عن الوصول لما خططه يصاب بالإحباط الشديد بسبب اعتقاده انه فاشل, والحل للخروج من هذه الحالة هو الإدراك أن لا شيء في الحياة كامل أو مطلق , فلا يوجد أحد فاشل في كل شيء ولا يوجد أحد أيضا ناجح في كل شيء, ولذلك يجب علينا أن نتخلى عن الطموحات المطلقة والرغبة المتطرفة في الحصول على كل شيء.

عزل الأشياء عن سياقها :
يتسم تفكير المكتئب بمفهوم يدعى التجريد الانتقائي وهو يعني عزل شيء معين عن سياقه ووضعه في سياق آخر, فإذا واجه موقفا سلبيا  في عمله كأن يسخر أحدهم منه أو يتجاهله أحد فإنه يعزل هذه المواقف عن سياقها ويستخدمها للتأكيد على فكرة مسبقة لديه وهي أن البشر جميعهم أشرار وقساة القلوب ,  الشخص المكتئب لديه فلاتر عقلية تجعله  لا يرى سوى الأمور السيئة  فقط  فإذا مر في يومه بعشر مواقف إيجابية وموقف سلبي واحد فإنه لا يتذكر سوى الموقف السلبي ويستخدمه لكي يثبت لنفسه نظرته المتشائمة للحياة.
التفسير السلبي لما هو إيجابي :
المكتئب لديه القدرة على إضفاء طابع سلبي على كل شيء بما فيها المواقف الإيجابية التي يمر بها , إذا حصل شخص مكتئب على وظيفة جيدة فإنه يعتبرها ضربة حظ أو صدفة أو منحة لا يستحقها  ولا يفكر في المميزات والسمات الشخصية التي يملكها والتي جعلته يستحق تلك الوظيفة, ويعتقد الدكتور ديفيد برنز المتخصص في علاج الاكتئاب أن خاصية التفسير السلبي لما هو ايجابي من أكثر أخطر خصائص التفكير وأكثرها تدميرا للذات ,  المكتئبون يعتقدون أن أسباب اكتئابهم ترجع إلى سوء حظوظهم ,ولكنهم للأسف حتى لو حصلوا على ما يريدونه في الحياة فإنه سيظلون مكتئبين بسبب اعتقادهم أنهم لا يستحقون الأشياء الإيجابية التي حصلوا عليها وبالتالي فإنهم يحولون كل شيء إلى مصدر للتعاسة.
القفز الى الاستنتاجات:
يميل المكتئب إلى تفسير الحوادث التي تقع له بطريقة سلبية اعتمادا على الاستنتاج والافتراض بدون أن تتوافر لديه أي معلومات حقيقية كما انه يميل إلى قراءة أفكار الآخرين وتفسيرها بطريقة سلبية والاعتماد على تصوراته وكأنها واقع , المكتئب لديه ميل إلى اعتبار كل موقف سلبي يحدث له بمثابة إهانة أو رفض أو جرح للكرامة, مثلا  إذا اتصل شخص مكتئب بصديقه تليفونيا ولم يرد عليه فإنه عادة ما يستنتج أن صديقه يتجاهله لأنه لم يعد يحبه بدلا من أن ينتظر ليعرف سبب عدم رده. وإذا كان يمشي في مكان عام وصادف شخصا يعرفه ولم ينتبه إليه هذا الشخص فإنه يعتقد ان هذا الشخص تعمد تجاهله لأنه يكرهه. كل هذه الاستنتاجات السلبية السريعة  تجعل الشخص المكتئب يرى العالم حوله بطريقة عدائية مما يدفعه للانسحاب والانزواء أو التصرف بطريقة طائشة أو متهورة تجعله يخسر علاقته بالآخرين.

قراءة المستقبل سلبيا ( خطأ المنجم ):
المكتئب يعتقد انه قادر على قراءة مستقبله بصورة صحيحة كأنه يعلم الغيب بشكل دقيق , انه يتوقع   الأسوأ لنفسه ولكل من حوله بدون وجود أي دليل مادي على صحة توقعاته, وبالتالي فإنه يصيب نفسه  بالخوف والتوتر والقلق طوال الوقت في انتظار حدوث الأمور السيئة التي توقعها , انه يعتقد  أن حالته النفسية ستظل سيئة للأبد  وكل محاولاته لتحسين حياته ستبوء بفشل ذريع لأن الشقاء مكتوب عليه. التفكير الاكتئابي يجعل المرء مقتنعا بأن قراءته السلبية للمستقبل صحيحة وصادقة تماما وبالتالي فإنه يرفض أن يجادله أحد أو يقنعه بعدم منطقية توقعاته.
التأويل الشخصي للأمور :
الشخص المكتئب يميل إلى التفسير الشخصي للأمور , فإنه يعتقد أنه مسئول عن أي خطأ يقع أمامه حتى لو لم يكن من صنعه , فإذا وقع شجارا أمامه فإنه يفكر في سبب يجعله المسئول عن وقوعه ,  وإذا اصطدمت سيارته بسيارة شخص آخر يلوم نفسه ويعتقد انه سائق فاشل حتى لو كان السائق الآخر هو المخطئ, المكتئب لديه شعور دائم بالذنب يدفعه لتحمل مسئولية أشياء ليس له دخل في حدوثها, وتأويله الشخصي لكل شيء يحدث له يجعله يتعامل بحساسية مفرطة مع الآخرين فقد يتراجع عن الاتصال بأصدقائه خوفا من إزعاجهم وقد يتراجع عن توجيه النصح والإرشاد لزملائه أو مرؤوسيه في العمل خوفا من جرح مشاعرهم.
الأنماط الفكرية التي ذكرناها متشابهة كما انها شائعة  وموجودة بدرجات متفاوتة بين كثير من الناس, ولكنها عندما تجتمع في عقل شخص واحد  فإنها تؤدي حتما إلى إصابته بالاكتئاب والاضطراب النفسي , هذه الأنماط الفكرية  مدمرة للصحة النفسية والحياة بشكل عام ورغم أن تلك الأنماط الفكرية  عادة ما تكون راسخة في الذهن حتى أنها تعمل بشكل آلي في عقولنا إلا أننا يمكن أن نتخلص منها إذا أردنا  , والخطوة الأولى للتخلص من تلك الأنماط الفكرية  هو الوعي بوجودها , مثلا عندما يقع لك حادثا معينا لا تركز على مشاعرك تجاه هذا الحادث بل ركز على الفكرة التي مرت بذهنك والتي جعلتك تفسر ما يحدث حولك بطريقة معينة وبالتالي أدت بك إلى الاحساس بالكآبة. يجب عليك أن تنتبه إلى الأفكار التي تمر بذهنك وأن تقوم بتحليلها , حينئذ ستجد العيوب والمبالغات الموجودة فيها وبعدها تستطيع أن ترد عليها بطريقة منطقية وعقلانية وتستطيع أن تتخلص منها بالتدريج.
أتمنى أن يكون هذا العرض  لبعض ما ورد في كتاب الاكتئاب لعبد الستار ابراهيم  عن الأنماط الفكرية التي تميز المكتئبين مفيدا لكم  , إذا أردتم معرفة المزيد  عن مرض الاكتئاب وطرق العلاج منه بالتفصيل فأنصحكم بقراءة الكتاب بأكمله ومحاولة تطبيق الإرشادات والنصائح الواردة فيه  حتى تحمون أنفسكم من الإصابة بهذا المرض اللعين.

2 تعليقات

  1. كلامك وتعبيراتك كلها علمية وممتعة فى وقت واحد شكرا

    ردحذف
    الردود
    1. العفو وشكرا على مرورك الجميل في المدونة

      حذف

رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته