ليزا سيدة  جميلة وذكية كانت تعمل في مجال النشر ولكنها تركته بعد الزواج من أجل التفرغ لتربية ابنتها. تمر السنوات وتنفصل ليزا عن زوجها فتواجه أزمة مادية وتضطر أن تبحث عن عمل, جميع الشركات ترفض تعيينها رغم خبرتها الطويلة في المجال لأنها تبلغ الأربعين من العمر رغم أنها لا تزال تبدو شابة , تستغل ليزا مظهرها الشاب وتقوم بتزوير بطاقتها الشخصية، وتدعي أنها تبلغ من العمر 25   وبالفعل تنجح في الحصول على وظيفة في إحدى مؤسسات النشر، تعيش ليزا حياتين، حياة علنية  ترتدي فيها ملابس على الموضة وتجاري زميلاتها في المرح والطيش, وحياة أخرى سرية تظهر فيها على طبيعتها كامرأة أربعينية ناضجة .
هذه هي قصة مسلسل أمريكي كوميدي يحمل  عنوان
 أو " أصغر،".“Younger
رغم أن قصة هذا المسلسل تبدو غريبة ومبالغ فيها إلا أن المسلسل يجسد بشكل ساخر هوس المجتمعات الحديثة بسن الشباب و الظلم والتمييز الذي تتعرض له المرأة من المجتمع عندما تصل إلى منتصف العمر.
هذا المسلسل جعلني أتذكر كم كنت  في طفولتي أسخر من الفنانات اللاتي يلجئن إلى عمليات التجميل  حتى يحافظن على مظهرهن الشاب.  كنت أندهش عندما أرى سيدة تتعامل مع عمرها كأنه سر عسكري لا يجوز إفشائه. كنت أعتبر إخفاء النساء لأعمارهن دليل عدم ثقة في النفس وتفاهة وتصابي إلى أن  تخطيت الثلاثين ووجدت إحدى الفتيات تسألني عن عمري، عندما اخبرتها الحقيقة وجدتها ترفع حاجبيها اندهاشا وتقول لي " عمرك لا يبدو عليكٍ".

إجابتها أزعجتني فسألتها بعصبية  " وهل الثلاثينات هي سن الشيخوخة ؟  ", ضحكت وأخبرتني أنها  قصدت أن تقول لي هذا الكلام كمدح، ولكني لم أعتبر كلامها مدحا لأنه ذكرني بالكلام الذي كنت أسمعه يقال للسيدات العجائز لرفع روحهن المعنوية وإيهامهن بأنهن لازلن صغيرات.
 بدأت أجد صعوبة شديدة في إيجاد عمل أو حتى الحصول على منحة دراسية لأن كل الشركات تضع سن الثلاثين كحد أقصى لقبول المتقدمين. بدأت أجد  الناس الأصغر سنا مني يعاملونني باحترام مبالغ فيه عندما أخبرهم بعمري. أصبحت أشعر بالخجل كلما سألني أحد عن عمري وبدأت اتجنب الإفصاح عنه مثل السيدات اللاتي كنت أسخر منهن.
 حينئذ تفهمت  معاناة النساء الأكبر سنا مني، وأدركت  أن المشكلة النفسية التي تنشأ لدى السيدات مع أعمارهن لا تأتي من داخلهن ، ولكنها تأتي من المجتمع الذي يقيس قيمة المرأة بمدى جمالها وشبابها.  المجتمع لا يزال يرى أن وظيفة المرأة الأساسية  هي الإنجاب وإمتاع الرجل وفي مرحلة العشرينات تصل المرأة إلى ذروة الخصوبة والجمال .
 ولكن بعد أن  تتخطى المرأة  الثلاثين تقل قدرتها على الانجاب فتقل فرصها في الزواج والعمل، وبعد أن تتخطى الأربعين ترتعد رعبا إذا رأت  تجعيدة على وجهها أو خصلة بيضاء في شعرها ويزداد رعبها عندما ترى زوجها يسخر من شكلها  ويقارنها  بالفنانات الشابات صاحبات الجمال البلاستيكي. ومن هنا تبدأ رحلة المرأة  مع الصبغات وكريمات إزالة التجاعيد مرورا بحقن البوتوكس وانتهاءً بعمليات التجميل التي لا  تجعلها  تبدو جميلة بقدر ما تجعلها تبدو  كنسخة باهتة و مشوهة من نفسها.
المشكلة أن المجتمع يسخر من المرأة في جميع الأحوال، يسخر منها إذا رأى آثار عمليات التجميل بادية على وجهها, ويسخر منها إذا رأى علامات الزمن بادية على ملامحها.  
المجتمع يريد من المرأة المستحيل, يريدها أن تكون شابة للأبد بدون أن تظهر المجهود الذي بذلته من أجل الحفاظ على شبابها، والمرأة تشعر بالتمزق وتعيش صراعا داخليا عنيفا.
 إنها تريد أن تتصالح مع نفسها ومع الزمن ولكنها تريد في الوقت نفسه أن ترضي المجتمع وتبدو جميلة وشابة لأطول فترة ممكنة، وعندما تدرك أنها  تخوض معركة خاسرة ضد الزمن تصاب بالحزن واليأس .
 ليس من الغريب أن كثير  من السيدات يصبن بالاعتلال المزاجي والاكتئاب في مرحلة منتصف العمر والتي يطلق عليها سن اليأس بسبب شعورهن بأنها بلا قيمة وغير مرئيات, فالمجتمع لم يعد في حاجة إليهن بعد أن زال جمالهن وفقدن القدرة على الإنجاب. كما أنهن يصبن بالخوف من التقدم في السن ويصدقن أن الشيخوخة تعني المرض والعجز فيفقدن الرغبة في مواصلة الحياة ويعشن باقي أيامهن على ذكريات الشباب الغابر.
 لابد أن نعترف  أن مجتمعاتنا المعاصرة تعاني من هوس مرضي بسن الشباب وخوف مبالغ فيه من سن الشيخوخة، هذا الخوف مصدره الخوف الأكبر الذي يملكه الإنسان من الموت والفناء , وهذا الخوف يجعلنا ندعي أننا أصغر مما نحن عليه وأن الزمن لم يمر سريعا بنا رغم أننا نعلم أننا نكذب على أنفسنا وعلى الآخرين.
التقدم في العمر ليس خطيئة بل سنة الحياة, والشيخوخة ليست مرضا ولكنها مرحلة حتمية من مراحل العمر, ليس من الخطأ أن تحاول المرأة الحفاظ على جمالها أو أن تهتم بمظهرها, ولكنها يجب أن تتوقف عن  الاعتذار للمجتمع لأنها لم تعد في العشرين , يجب أن تحتفل المرأة بنضجها وحكمتها وثقافتها , يجب أن  تتمرد على نظرة المجتمع القاصرة لها وتصر على العمل والمساهمة في المجتمع و تثبت للجميع أن قيمتها في الحياة لا تقاس بعدد سنوات عمرها.

2 تعليقات

  1. المجتمع لا يحكم على الشباب مثلما يحكم على السن
    للاسف أجيال كثيره شارفت على الثلاثين والأرعين ولم تعش شبابها بل إنطلقت من الطفولة للكهولة لمجرد مرور عشر سنوات بين العشرين والثلاثين ...
    الحياة فى جميع الحالات ليست عادلة كما قال بيل جتس
    مودتى وإحترامى

    ردحذف
  2. معك حق احترامي لك وشكرا على المتابعة واهلا بك دائما في المدونة

    ردحذف

رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته