كم عدد أصدقائك ؟ 
لو طرحت هذا السؤال على أي شاب من عشر سنوات  كان سيخبرك أن أصدقائه لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة. لكن لو طرحت نفس  السؤال على شباب اليوم ستجدهم  يتفاخرون أمامك  بأنهم يملكون خمسمائة او الف صديق على الفيسبوك، وأن لديهم عشرات الآلاف  من المتابعين على تويتر.
 من وقت غير بعيد  كان التعرف على الناس وإنشاء صداقات أمر صعب ويتطلب الجرأة واللباقة والقدرة على إدارة الحوار, ولكن بفضل التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي صار الأمر لا يتطلب أكثر من الضغط على زر طلب الصداقة وزر قبولها, وبالتالي كثرت علاقاتنا الاجتماعية وتعددت وتشعبت, وصار من السهل علينا أن نتعرف على عدد ضخم من الناس ونتمكن من التواصل معهم بشكل مستمر وفي أي وقت.
  لقد سيطرت التكنولوجيا على حياتنا بصورة كلية و بدلت شكل علاقتنا بأنفسنا وبالعالم و حولت أقرب الناس إلينا إلى كائنات افتراضية, فلم يعد من الغريب أن تجد أسرة  تجلس في حجرة واحدة و كل منهم يحمل هاتفه المحمول ويبعث من خلاله برسائل سريعة إلى الآخر.
 لماذا صار البشر مرتبطين  بالعالم الافتراضي ولماذا صاروا يفضلونه عن العالم الواقعي ؟
عالمة الاجتماع الامريكية شيريل تيركل استطاعت أن تجيب على هذا السؤال بعد أن قامت بدراسة التأثيرات النفسية والاجتماعية للتكنولوجيا على الحياة وعلاقات البشر ببعضهم, وقامت بعمل مقابلات مع مجموعة متنوعة من مستخدمي التكنولوجيا, وتحدثت عن نتائج دراستها في محاضرة أذيعت على الموقع الثقافي الشهير تيد توك .
لقد اكتشفت شيريل تريكل أن الناس يفضلون وسائل التواصل الالكتروني على التواصل المباشر لأنه سهل وسريع, ولأنه يتيح للمستخدم التحكم في الطريقة التي يقدم بها نفسه للآخرين, فوسائل التواصل الالكتروني تتيح لك حذف وتعديل وتنقيح كلماتك واختيار الصور والوجوه الالكترونية الأفضل  لتقدمها للآخرين على عكس التواصل البشري الذي يجبرك على الظهور بشخصيتك الحقيقية الغير منمقة أمام الناس.
السبب الآخر الذي يجعل وسائل التواصل الالكتروني مفضلة لدى معظم الناس هو أنه لا يتطلب منهم نفس الالتزام والاهتمام والقرب الذي تتطلبه الصداقات الحقيقية, من السهل أن تتواصل مع أصدقائك الافتراضيين وقتما تريد عن طريق الضغط على علامات الإعجاب وكتابة تعليقات على منشوراتهم, ولكنك لست مضطرا  للسؤال عنهم كل يوم أو الخروج معهم أو تقديم أي خدمة لهم أو مساندتهم مثلما تفعل مع أصدقائك الحقيقيين.
علاقاتك بأصدقائك الافتراضيين  آمنة ولطيفة لأنها سطحية, فأنت لا تعرف عنهم إلا ما ينشرونه على صفحاتهم وهم بالمثل لا يعرفون عنك إلا ما تكتبه لهم , وهناك حاجزا كبيرا  يفصل بينكم يتمثل في شاشة الهاتف او الحاسب, لذا فإن هذه  العلاقات عندما تنتهي لا تسبب   لطرفيها شعور الوجع والفقد الذي يسببه انهاء العلاقات الحقيقية.
 هل هذا يعني أن الصداقات الافتراضية استطاعت قضت على شعور الإنسان بالوحدة, واستطاعت أن تقدم له الرفقة والصحبة بدون أن تجعله يخاطر بمشاعره أو يضيع وقته مع الناس  ؟
تؤكد شيريل تيركل أن العكس هو الصحيح, فمن خلال المحادثات التي أجرتها مع مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي اكتشفت انهم يشعرون بالوحدة ويتمنون لو كان بإمكانهم إجراء محادثات حقيقية  مع زملائهم, ولكنهم في الوقت نفسه يعترفون بأنهم صاروا مدمنين على هواتفهم الذكية  وصاروا يستعملونها كوسيلة لتجنب مخاطرة التواصل مع الناس.
 لقد  شعرت شيريل تيركل بالأسى عندما ذهبت إلى أحد دور المسنين ووجدت إمرآه عجوز  تتحدث مع روبوت تم اختراعه لتسلية المسنين ورأته  يستمع لها بعطف ويحتضنها.
يبدو أن مؤلفي قصص الخيال العلمي لم يبالغوا عندما تنبئوا أن الإنسان الآلي سيكون الصديق المفضل لنا في المستقبل. ليس من الغريب أننا نشعر بالوحدة رغم الكم المهول من الأصدقاء  الذين نمتلكم  على مواقع التواصل الاجتماعي, إننا للأسف لم نعد  قادرين على إقامة أي علاقة حقيقية مع أي أحد لأننا حولنا جميع الناس إلى كائنات افتراضية نتواصل معهم عن بعد ونرسل لهم  قبلات وابتسامات واحضان الكترونية باردة.
الحل ليس أن نغلق حواسبنا أو نلقي بهواتفنا في الشارع. الحل أن  نتحرر من عبوديتنا للتكنولوجيا و نعيد رسم حدود علاقتنا بها, الحل أن  نتوقف عن الاختباء وراء شاشات اللامعة  ونفتح أعيننا  وننفصل عن الانترنت قليلا وننزل الشارع وننظر حولنا  ونحاول التواصل مع بشر من لحم ودم.
 ما أجمل أن ترى صديقك وجها لوجه وتسمع صوته وتصافحه وتحتضنه, ما أجمل أن ترى عضلات وجهه وهي تتحرك عندما يضحك او يبكي أو يغضب, ما أجمل أن تعطي كل اهتمامك وتركيزك لأسرتك وأصدقائك وأحبائك بدلا من أن تعطيه للهاتف الذكي.
 العلاقات  الاجتماعية معقدة ومخيفة ومحفوفة بالمخاطر ولكنها تمنحنا دفئا وأمانا وحبا وسعادة لا يمكننا الحصول عليها بطريقة أخرى, لذلك يجب  علينا أن نقويها ونحافظ عليها فبدونها ستصبح حياتنا كالصحراء.
 يمكنكم مشاهدة محاضرة شيريل تيركل عن تأثير التكنولوجيا على العلاقات الاجتماعية مترجمة إلى العربية من هنا.

1 تعليقات

رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته