" لا يذكر من أين أتى، ولا لأي غرض 
جاء, ولكنه في صباح أحد الأيام وجد نفسه 
في هذه المدينة التي لا يعرف عنها شيئا، 
ظل واقفا يدير بصره في أنحاء المكان 
يتأمل واجهات المساكن والمتاجر, الجدران 
نظيفة والأفاريز نظيفة, ويكاد يرى صورته  
منعكسة على أرض الشارع من فرط 
نظافته. إنه لا يذكر وسيلة المواصلات التي 
نقلته إلى هذه المدينة، لا يذكر أنه ركب 
طائرة او سفينة او قطارا، ولكن لابد أنه 
انتقل إليها من مكان آخر, فهو متعب, 
والمدينة غريبة في نظره لم يرها من قبل".
هذا هو المقطع الافتتاحي لرواية " الواجهة" للأديب المصري الراحل الدكتور يوسف عز الدين عيسى. إذا كنتم لم تسمعوا من قبل عن هذا الأديب الكبير فأنتم لستم وحدكم.
أنا أيضا لم أكن أعرف عنه شيئا حتى وقت قريب، لكن المصادفة البحتة قادتني إلى اكتشافه، إذ كنت أجلس مع أصدقائي في نادي الكتاب عندما جاءت تلك السيدة الفاضلة لتجلس معنا.
عرفتنا بنفسها قائلة أنها ابنة الأديب يوسف عز الدين عيسى , لم تستغرب عندما أخبرناها أننا لم نقرأ له من قبل, أخبرتنا أنها تعرف أن والدها لم يحصل على الشهرة التي يستحقها لأنه كان يعيش في الاسكندرية بعيدا عن الوسط الثقافي والإعلامي في العاصمة.
 روت لنا المسيرة الأدبية لوالدها الراحل الذي استطاع أن يجمع بين عمله كأستاذ جامعي في كلية العلوم وبين حبه للأدب الذي قاده إلى كتابة الرواية والقصة القصيرة بالإضافة إلى المسلسلات والمسرحيات الإذاعية، ولقد استطاع الدكتور يوسف عز الدين عيسى أن يخترع مدرسة أدبية خاصة به تشبه الواقعية السحرية حيث يمتزج فيها الواقع بالخيال بشكل رمزي. خلال مشواره الأدبي الطويل حصل يوسف عز الدين عيسى على عدة جوائز منها جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1987  وهو أول أديب مصر يحصل على هذه الجائزة رغم أنه يعيش خارج العاصمة، كما حصل على وسام الفنون والعلوم ووسام الجمهورية وقبل وفاته عام 1999  على وسام فارس الأدب، واختير كأفضل شخصية أدبية في مصر عام 1998 و 1999
 رشحت لنا ابنه الأديب الكبير قراءة روايته الواجهة التي صدرت في الثمانينات, وقامت الدار المصرية اللبنانية بإعادة طباعتها عام 2014 احتفالًا بذكرى مرور مائة عام على ميلاده.
 بعد أن روت لنا مقدمة الرواية شعرت برغبة عارمة في قراءة هذه الرواية، فأخذت أبحث عنها حتى وجدتها وبدأت قراءتها في اليوم نفسه.
 بعد أن قرأت الصفحة الأولى من الواجهة وقعت في سحر كلمات يوسف عز الدين, انفصلت عن حياتي اليومية وعشت  بكل كياني مع بطل الواجهة الذي استيقظ ليجد نفسه في مدينة غريبة لا يعرف عنها شيء فيحاول أن يعيش فيها ويكتشف سرها وسر وجوده فيها. ورغم إني قارئة بطيئة إلا أنني استطعت إنهاء الرواية الذي يصل عدد صفحاتها  إلى 350 صفحة في يومين فقط . وبعد أن انتهيت من قراءتها أدركت لماذا قال  نجيب محفوظ أن الواجهة هي  أفضل رواية قرأها على الإطلاق، استغربت لماذا لا تتصدر تلك الرواية قوائم المبيعات في المكتبات؟، ولماذا لم تترجم إلى كل لغات العالم ؟، ولماذا لم تحظً بالاحتفاء النقدي والاعلامي الذي حظيت به روايات أخرى  أقل ما يقال عنها أنها تافهة ؟.
 يبدو أن النجاح لا يذهب دائما لمن يستحقه.
 إنني لن أبالغ لو قلت أن هذه الرواية تعد من أفضل الروايات العربية على الإطلاق بل إنها تنافس بقوتها وبراعتها أهم الروايات العالمية لأن موضوعها يهم كل إنسان في العالم, ولو كان مؤلفها ينتمي لدولة متقدمة لحصل على جوائز أدبية كبرى.
إن سر عظمة رواية الواجهة هي أنها لا تتحدث عن دولة معينة أو عصر معين أو قضية معينة, إنها تتحدث عني وعنك  جميعا, تتحدث عن  الإنسان، ذلك  الكائن البائس الذي كتب عليه الكفاح والشقاء من المهد إلى اللحد، ذلك المخلوق الضعيف الذي يعيش في الحياة تائهًا ضائعًا يحاول معرفة لماذا جاء ولماذا يعيش ولماذا يموت وما هي الحقيقة, ولكنه لا يملك رفاهية الوصول إلى الحقيقة لأنه مجبر على الدوران في دوامة الحياة من أجل الحصول على  الرزق.
يتميز أسلوب الدكتور يوسف عز الدين بأنه سهل وسلس, فهو لا يكثر استخدام المحسنات البديعية أو  ألفاظ غريبة أو غامضة لكي يستعرض قدراته اللغوي. ورغم بساطة السرد في الرواية  إلا  إنها تحفل برموز كثيرة وتطرح أسئلة  مثيرة للجدل, تلك الأسئلة الوجودية  ستعبث بعقلك وستحفزك على التفكير وستدفعك لطرح أسئلة كثيرة عن نفسك و عن  معنى الحياة والموت وسبب شقاء الإنسان.
 عنوان  " الواجهة  " يرمز  إلى واجهة الحياة, تلك الواجهة التي تبدو لنا من الخارج جميلة, ولكننا سرعان ما نكتشف أنها مزيفة، وأن الحياة ليست كما تبدو لنا، وأنها تخفي وراء الواجهة البراقة عالما خلفيا يعج بالشر والظلم والفساد والانحراف.
  رواية الواجهة خيالية جدا ولكنها في الوقت نفسه واقعية لدرجة مؤلمة وهذا هو سر عظمتها, إنها أفضل كنز أدبي عثرت عليه هذا العام ، لذا أدعوكم لاكتشافها وقراءتها, وأنا على يقين أن رؤيتكم للحياة ستتغير كليا بعد أن تنتهون منها. 
 

1 تعليقات

  1. نعم تختبئ خلف الواجهات الجميلة شتى أنواع الفساد و الظلم و الانحراف

    ردحذف

رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته