لا شك أن الكتابة  نعمة عظيمة من الله , إنها موهبة خاصة  أن تمتلك القدرة على وصف أدق المشاعر والأحاسيس وعلى التعبير عن النفس البشرية بكل تقلباتها وتناقضاتها  وأن تخترع قصص ومواقف وشخصيات.
تبدو الكتابة من الخارج عملية إبداعية ممتعة جالبة للسعادة , لكنها في الحقيقة ليست كذلك دائما.
الكتابة لها وجه أخر مظلم, ,فكما تعطي  الكتابة للأديب إحساس بالحرية وبالسعادة  تتسبب في أحيان أخرى في إصابته بالاكتئاب.
 لقد أثبتت الدراسات العلمية أن الكتاب أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بالاكتئاب وبالأمراض النفسية عموما, و قائمة الأدباء المشهورون  الذين أصيبوا بالاكتئاب  طويلة  منهم ,فرانز كافكا ,ليو تولستوي ,ادجار ألن بو , مارك توين , تشارلز ديكنز , اجاثا كريستي , أنطون  تشيكوف, ومنهم من انتحر مثل فيرجينا وولف ,وارنست هيمنجواي ,وديفيد فوستر والاس.
هناك أسباب عديدة تؤدي إلى سقوط  في هاوية الاكتئاب بعضها متعلق بطبيعة عملهم الإبداعي ,فالأديب أو الفنان عموما  يتميز بالحس المرهف الذي يجعله قادر على التقاط أحاسيس الآخرين بسهولة وبسرعة  أكثر من غيره , فلكي يعبر  الأديب عن الناس يجب أن يتفاعل مهم  ويتأثر بهم ويمتص مشاكلهم حتى يتوحد مع معاناتهم وآلامهم ,وتأثر الأديب بمعاناة الآخرين وإحساسه بالإحباط من الطريقة التي يسير بها العالم يؤثر على حالته النفسية بالسلب.
 كما أن الكتابة تتطلب من الأديب أن ينعزل عن الناس ويجلس وحيدا لساعات طويلة الانعزال لكي يفكر ويتأمل ويغوص في أعماق نفسه حتى يعثر عن الجواهر الفكرية الثمينة وبعد أن يكتب ويقرأ ما كتبه , ينتابه الشك في جودة ما كتبه ويبدأ  الصوت الناقد بداخله في الخروج والسيطرة عليه ,  فيوهمه أنه فقد موهبته أو أنه  موهوم وليس موهوبا , يحاول أن يتغلب على إحباطه ويعاود البحث مجددا عن المبدع داخله وعملية البحث هذه عملية شاقة مرهقة مثل التنقيب في المناجم ,و ما يزيد من صعوبتها أن الكاتب يقوم بها بمفرده ,وعادة ما يكون الأديب وحيدا في معاناته وفي أفكاره ومشاعره , لا يؤنسه سوى شبح الشخصيات التي يحاول رسمها في مخيلته.
السبب الأخر المهم الذي يجعل الكتابة مسببة للاكتئاب هو أن العائد المادي والمعنوي الذي يحصل عليه الأديب عادة ما يكون هزيلا مقارنة بالمجهود  الذي يبذله يوميا في التفكير والتأمل والكتابة والتنقيح  حتى يخرج عمله على أفضل صورة , وهذا ما  يجعل الأديب مضطرا للعمل في مهنة أخرى حتى ينفق على نفسه ,  مما يجعله غير قادر على التركيز في الكتابة , كما أن الكاتب في العالم العربي خصوصا يضطر أن ينفق من ماله حتى ينشر كتابه , وإذا لم يحقق كتابه مبيعات جيدة, لا يتمكن من استرداد الأموال التي دفعها, وبهذا تكون الكتابة سببت له خسارة مادية بالإضافة للأثر النفسي السلبي الذي يلحق به.
قد يعتقد البعض أن المعاناة  عنصر هام من عناصر الإبداع أو أن الإبداع يولد من رحم المعاناة والألم والصراع , ولكن التجربة كشفت لي أن هذا المعتقد خاطئ فالإبداع له شروط  من أهمها الصفاء الذهني والراحة النفسية, والشخص الذي يمر بحالات اكتئاب ويعاني طول الوقت لا يتمكن من التفكير والابتكار والإبداع جيدا  لأن الاكتئاب يستنفذ طاقة كبيرة من الإنسان ويسلبه قدرته على رؤية الأمور بطريقة صائبة.
 إذن فقدرة الكاتب على الاستمرار في الإبداع لا تعتمد على موهبته فقط ولكنها تعتمد بصورة كبيرة على إيمانه  بتلك الموهبة وعلى الدعم والمساندة التي يتلقاها من أقرب الناس إليه حتى يواصل مشواره , كما تعتمد على قدرته على التغلب على الصراعات النفسية العنيفة التي تدور داخله  لأن انهزامه أمام هذه الصراعات لن يدمر حبه للكتابة فقط, ولكنه قد يدمر حياته بأكملها.

التدوينة موجودة أيضا على مدونتي يوميات كاتبة 


0 تعليقات