اتهمتني زوجتي  بأنني متطرف  في غيرتي  لأني لم أحتمل  عملها التي يتطلب اختلاطها مع رجال غرباء في شكل زملاء  قد يوقعها أحدهم في شباكه .
ورغم أنها رضخت لطلبي  واستقالت من وظيفتها  إلا أن  وساوسي نامت  بعيون نصف مفتوحة  .
 كان أي تصرف عفوي مع غريب أو ابتسامة بريئة لقريب كافية لإيقاظ النار داخلي   , فتحولت إلى قاض يسأل ويحقق ويحكم وتحولت زوجتي   إلى متهمة تنفي وتدافع عن نفسها  وأخيرا تبكي قائلة والله العظيم مظلومة .
 في إحدى الأيام  عدت للمنزل بعد يوم طويل من العمل  وبعد أن فتحت الباب  رأيت أمامي شقة خالية على عروشها فظننت أني دخلت شقة الجيران ,ولكن عندما نظرت إلى الرقم على الباب تأكدت أنني  دخلت شقتي  فصفعتني المفاجأة القوية على وجهي وعرفت  ماذا حدث وما  سيحدث .
 لقد مات الزواج قبل أن يتم عامين ,  يا خسارة الوقت والجهد ,  يا خسارة حفل  الزفاف الخيالي الذي كان حديث العائلة  ,و يا خسارة الحب والأحلام السعيدة بتكوين عائلة وإنجاب أطفال ينيرون الحياة    .
ذهبت إلى بيت أهلها  طالبا للصلح ولكنها  رفضت أن تقابلني وقذفت بالعشرة والحب من أقرب شباك فلم يكن أمامي أي  اختيار سوى أن أوافق على الطلاق  .
 كنت أتمنى أن تعرف أني أحببتها حبا حقيقيا   وأني لم أشك في إخلاصها ولكني كنت أخاف من الثعالب البشرية  الذين يستخدمون أبرع الطرق لتحويل الشريفات إلى خائنات .
 الجميع لاموني على  غيرتي الزائدة عن الحد ولكن كل من ينتقدني  من المؤكد  أنه لم يتذوق طعم الخيانة. لقد شربت من كأسها  في سن صغيرة ومازال طعمها  المر يلسع  قلبي  حتى الآن .
لقد كنت في صغري مثال للطالب الخجول  المجتهد الذي لا يعرف في حياته سوى كلمة المذاكرة, وكنت أطمح  أن أكون مهندس اتصالات ولكن فرق بسيط في الدرجات أرسلني إلى جامعة طنطا على أن أعود إلى القاهرة إذا حصلت على تقدير مرتفع   .
 كنت رغم شعوري بالحزن  لابتعادي  عن أسرتي  متشوقا للخروج من شرنقتي  للحياة الجامعية الجديدة  .
كان ماهر هو أول شخص قابلته في الجامعة , وجدته شابا مرحا واجتماعيا فاستراحت نفسي إليه و اتخذته صديقا  .
في إحدى الأيام  دخلت  قاعة المحاضرات فوجدتها خالية إلا من  فتاة كانت تجلس على أخر مقعد  في يمين القاعة  , توجهت إليها لأسألها عن المحاضرة فأخبرتني  أنها تأجلت , تعارفنا بسرعة وكانت هذه هي  المرة الأولى التي أتحدث فيها مع فتاة في الكلية  .
 كان اسمها شيرين   و كانت تمتلك جمال سحري  يفتن   كل من لديه نعمة البصر   .
شعرت  بأن الحياة كشفت لي عن جمالها عندما رأيتها  .
  أحببت الذهاب إلى الجامعة حتى أقابلها  وصرت أفكر في كلامها المقتضب معي ونظراتها الغامضة وأحاول تفسيرها بشكل يخدم مشاعري المتفتحة .
كان ماهر يشاهد   تفاصيل القصة ويتعجب من صمتي وخجلي فنصحني بالتصريح بحبي لها  وحاول إرشادي إلى كيفية الحديث معها  حتى أكسب قلبها  فاقتنعت بكلامه و قررت أن أضع قلبي بين  يديها لكي تحكم على حبي  بالقتل  أو بالحياة المديدة  .
 وقفت أمامها وتلعثمت وأنا أبوح بمشاعري .   اعتبرت صمتها وابتسامتها الغامضة  علامة رضاها عني  وقررت أن أتفاءل خيرا وأدع مشاعري تتدفق في طريقها المرسوم  .
كنت أعطيها محاضراتي بدون أن تطلب وأشرح لها أي شيء تعثر عليها فهمه  كأنها التي تقدم لي خدمة  جليلة , وكانت نفسي القنوعة ترضى بابتسامتها وجلوسها بجواري  وأحاديثها القصيرة اللطيفة  فكادت السنة الدراسية أن تنتهي وأنا أعيش في نعيم الحب.
ربما كانت المقدمات موجودة و قلبي أعماني  عن رؤيتها ولكن كل ما أعرفه أنها جاءتني قبل بداية امتحانات نهاية السنة بشهر لتطلب مني بكل بساطة  أن أبتعد عنها لأنها  أدركت أن علاقات الحب في الجامعة  لا مستقبل لها ولا فائدة منها سوى إشغال طرفيها عن التحصيل العلمي .  
    لم أفهم  لماذا لم تدرك تلك الحقيقة إلا الآن  , قادني حدسي إلى مراقبتها من بعيد ,
 رأيتها تتبادل  الحديث مع  صديقي ماهر بينما كان  يضع يده على يديها  , غضبي دفعني إلى مفاجئهما  .
  تجمدا في مكانهما   ثم حاول  ماهر أن يقنعني بأن  القصة ليست كما أظن و لكني لم أحتاج لسماع شرحه   فالصورة كانت  واضحة ولا تحتاج لمكبر يكشف عن تفاصيلها أو خفاياها .
 أدركت أن مهارتي في كتابة المحاضرات بسرعة هي السر وراء إعجابها بشخصي الساذج وأن تشجيع ماهر لي على مقابلتها كان يخفي وراءه خطة محكمة  لخطفها مني   .
 رغم جراحي النفسية العميقة  لم أكن غبيا لأترك الدراسة من أجلها فقررت أن أبذل مجهودا خرافيا حتى  أحصل على التقدير الذي يبعدني عنها ويعيدني إلى القاهرة .
 ظهرت النتيجة فحصلت الخائنة على تقدير جيد بفضلي وحصل الخائن على مقبول كما هو متوقع من طالب فاشل مثله وأثمر مجهودي عن تقدير جيد جدا فعدت إلى القاهرة وقررت أن أبدأ حياتي من جديد .
ارتبطت عدة مرات ولكن حظي القليل كان يجعل كل فتاة أعطيها خاتم الخطبة تعيده لي بعد شهور معدودة ,والسبب هو اعتقادها أني  أطعن  في أخلاقها لأني كنت أراقبها دون أن تشعر . بعد سنوات من الارتباط والانفصال رشح لي أهلي الفتاة التي أصبحت زوجتي .
رغبتي في الزواج والإنجاب مع تقدم عمري أجبرتني على الموافقة عليها  بدون مراقبة وتدقيق  وبعد زواجي منها اكتشفت أن الناس لم يخطئوا في وصفها وأنها أنسب إنسانة  لي ولكن لم أتوقع أن ينفذ صبرها سريعا  ويحدث الانفصال .
كنت أقود سيارتي في زحام الظهيرة عندما توقفت كل السيارات  من أجل الإشارة  فسمعت أم كلثوم تغني  بالقرب من أذني.
استدرت لأبحث  عن مصدر الصوت فرأيت أمامي  أكبر مفاجأة في حياتي .
إنها شيرين  , مرت عشرون عاما حفر فيها  الزمن على وجهها علاماته ولكنه لم يغير ملامحها .
كان  يجلس بجانبها طفل من المؤكد أنه ابنها  .
 دفعتني قوة أكبر مني  إلى  أن أمشي وراء سيارتها الفاخرة التي تؤكد أنها تزوجت من ثري ربما يكون ماهر .
عندما اقتربت سيارتي من سيارتها وجهت  لي نظرة حادة  ثم انطلقت بسيارتها بأقصى سرعة .
لم أفاجئ بهروبها    فأخر شيء يتمناه المجرم هو  أن يرى ضحيته .
زدت من سرعتي لكي أتبعها  حتى توقفت  أمام عمارة شاهقة فخرجت  مسرعا لألحق بها  قبل أن تدخل العمارة .
 هتفت باسمها   فاستدارت و نظرت كأنها لا تعرفني  , قلت لها
-         أنا سامي
-         أنا آسفة لا أعرفك
-          لقد كنت زميلك في هندسة طنطا
 تفحصت وجهي   ثم غمغمت
-          ربما أكون رأيتك من قبل ولكني لا أتذكرك    الإطلاق فزملائي كانوا كثيرين
-         لقد كنت  صديق ماهر  ولكني تركت طنطا بعد السنة الأولى  هل تذكرتي     ألان 
لمعت عيناها ثم أومأت برأسها مبتسمة
-  نعم لقد عرفتك كيف حالك  , ما شاء الله   يبدو أن ذاكرتك حديدية لكي تتذكر وجهي بعد كل هذه السنوات
قبل أن أتحدث معها عن الماضي بدأ  ابنها  يبكي وينادي عليها , فتأسفت لي واستأذنت مني ثم صعدت إلى العمارة مسرعة.
أردت أن أجرى ورائها لكي أذكرها بقصتنا القديمة وأخبرها أنها دمرت حياتي وأنني  لن أسامحها ,  ولكني ظللت واقفا   في مكاني رغما عني كأني  سجين مكبل بالأصفاد  .
وعندما  فكرت في أمري مليا  أدركت  أنني السجين والسجان ويبدو أن موعد الإفراج قد حان.




1 تعليقات

  1. قصة رائعة .. والسرد أروع .. جعلني أشعر بأني اشاهدهم عن كثب

    ردحذف

رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته