اختفت الشمس تماما  من المدينة   ولم تترك إلا بقايا ضوء تناثر  بشكل عشوائي فوق صفحة السماء  بينما مشى عمر  على كورنيش البحر حاملا  أكياس غزل البنات الملونة المربوطة بمسامير في عصا خشبية طويلة  .
كان عمر  يضطر أن يشب ويقف على أطراف أصابع قدميه الصغيرين العاريتين  حتى يظل محافظا على توازنه الذي يتعرض للاختلال   من   العصا الثقيلة على عضلاته  الصغيرة , فينحسر قميصه الأحمر  الباهت عن ظهره ويتدلى الشورت الأزرق الواسع الذي يرتديه  وينكشف طرف  سرواله الداخلي الأسود     .
ظل عمر ينادي على غزل البنات بصوت ضعيف مقارنة بالأصوات الزاعقة الغليظة  لباعة التين الشوكي والذرة المشوي والترمس  المنتشرين على الكورنيش . وقد مر  عليه اليوم ولم يبع  حتى الآن  إلا كيسا واحدا  . تطلع   للأطفال الذين يمشون حوله   فرأى بعضهم   الشيكولاتة في تلذذ  وآخرين يلعقون   بألسنتهم كرات الأيس الكريم الكبيرة   ,فتساءل  هل  صار غزل البنات موضة قديمة ؟.
  رأى  ولدا   يرتدي   تي شيرت رمادي   وبنطلون أسود مهترىء ويحمل  بين يديه سلة فيها مجموعة من المناديل  يمشى بجواره  و يتطلع لأكياس غزل البنات بعينين يأكلهما  النهم   . 
اقترب   منه  وسأله إذا كان يريد شراء كيس  غزل البنات .
بدا الأسى على الولد وهو يقول له  " نفسي بس مفيش معايا فلوس  لأني معرفتش أبيع ولا منديل النهاردة "  .
 مط عمر شفتيه في تأثر  ثم تطلع  إلى أكياسه وسحب منهم كيسا    .  تناول منه الولد الكيس في لهفة ثم  شكره ووعده أن يعطيه ثمن الكيس عندما ينجح في بيع المناديل .
واصل عمر تجواله  بين المارة على الكورنيش ورفع صوته إلى أقصاه  وأخذ يحرك  الأكياس يمينا ويسارا لعل المارة ينتبهون لوجوده  .
وأخيرا  اقتربت منه طفلة صغيرة وعلى وجهها ابتسامة متحمسة  وطلبت من أمها   أن تشتري لها غزل البنات  ,ولكن  أمها هزت رأسها بالرفض   وقالت لها أن السكر الذي يٌصنع منه  غزل البنات سيؤذي أسنانها .
طأطأت الطفلة رأسها في حزن  ولكنها أطاعت أمها  وابتعدت عنه وابتعد معها أخر أمل له في بيع أي كيس  .
بعد أن  تعب عمر  من التجول على الكورنيش جلس على السور وأخذ يتطلع إلى أكياسه بحزن  وتخيل خيبة الأمل التي سترتسم على وجه أمه عندما يعود لها اليوم  خالي الوفاض  , ثم قال لنفسه يجب أن تعذرني ليس ذنبي أن الناس لم تعد ترغب في شراء غزل البنات لأولادها  .
أحضر عمر حذائه التي تركه على الشاطئ وارتداه ووقف أمام العربات في انتظار الأتوبيس حتى يستقله ويعود به لمنزله   . انتبه  إلى وقوف سيارة سوداء ضخمة على مقربة منه ,  ثم رأى   صاحب السيارة  وهو رجل وسيم    بهي الطلعة  يبدو   من بدلته الأنيقة وشعره الأسود المصفف بعناية أنه ميسور الحال   يحدق فيه بطريقة غريبة  و يفحصه   بدقة كأنه يعرفه . 
 لقد رأى هذا الرجل أكثر من مرة  هذا الأسبوع وقد ظن أنه زبون ولكنه  كلما يقترب منه   كان يشيح بوجهه  بعيدا عنه   ويختفي بسيارته في لمح البصر  .  
 تطلع عمر للرجل بنظرة قلقة    ففوجئ به   يبتسم له ويشير له لكي يقترب  .
 جرى عمر باتجاه  السيارة في لهفة وتوتر   .
 ارتسمت على وجه الرجل ابتسامة حزينة وهو  يسأله عن ثمن كيس غزل البنات . أجابه عمر  بحماس " خمسين قرش " .  
 طلب منه الرجل بصوت هادئ  أن يعطيه  كل الأكياس التي يحملها . اتسعت عينا عمر في ذهول وسأله  "معقول كلها  . كلها ؟ ".
أومأ الرجل له برأسه وهو يضحك  مؤكدا على طلبه . تطلع عمر لسيارة الرجل فلم يجد فيها شخصا سواه   . تساءل  لمن سيشتري كل تلك الأكياس ؟ .
ربما سيشتريها لنفسه لأنه يحب غزل البنات  أو ربما سيشتريها لأولاده أو لأقاربه الأطفال  . ليس من المهم أن يعرف سيشتريها لمن . المهم أنه سيشتريها   وسيدخل في جيبه أخيرا   نقودا هو وأسرته  في أشد الحاجة لها  .
 سحب  عمر الأكياس العشرين كلها بسرعة فائقة  من العمود حتى أصبح خاليا وأعطاها للرجل في ابتهاج وقال له أن ثمنها عشر  جنيهات .أخذ منه الرجل الأكياس و دس يده  في جيبه وأعطاه ورقة نقدية  ثم غادر بسيارته .
  أخذ يحدق  عمر في الورقة    بدهشة وشعر  أنه سيغيب عن الوعي  عليه عندما  رأى هذا الرقم  مكتوب عليها  . كانت هذه هي أول مرة في حياته يحصل على    خمسين جنيها  .
  

2 تعليقات

  1. حلوه بس حاسس إن نهايتها مبتوره

    ردحذف
  2. جميلة وعجبتنى استمرى يا ياسمين :) موفقة ان شاء الله

    ردحذف

رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته