لا اصدق أن بعد يومين فقط سوف تعرض الحلقة الأخيرة من مسلسل العذاب الذي عشته مع أسرتي منذ عامين ,أخيرا سأعرف أهم رقم في حياتي الرقم الذي سيحدد مستقبلي كله هذا الرقم الغالي الذي أنفق أهلي من أجله الأموال على أفضل المدرسين وأنفقت من أجله وقتي وطاقتي وأعصابي وذاكرت مواد أكرهها مثل الرياضيات والكيمياء والفيزياء التي تجعلني مسائلها المعقدة أشعر أني أغبى إنسان على وجه الأرض .


شبح الإمتحانات ظل يلاحقني حتى في لحظات راحتي فكنت أرى نفسي في المنام عرضة للسخرية والتأنيب من أبي وأمي لأن أخطائي الغبية منعتني من الحصول على الدرجات النهائية ,في أعماقي كنت أعلم أسباب كوابيسي فدرجات العام الماضي لن تضمن لي الإلتحاق بالهندسة مما يعني أن حلم أبي لن يتحقق بعد أن فشل أخي الأكبر في الإلتحاق بنفس الكلية .

أثناء ضياعي في لعبة الأرقام والتوقعات السخيفة تخيلت مستقبلي إذا تحقق المحذور وأجبرت على الاتجاه إلى دراسة أخرى بسبب درجتين أقل في كل مادة خاصة أن أخطائي في الفيزياء كانت أكثر مما صرحت به , أبي كان يسخر مني كلما كنت أعبر له عن كراهيتي للمواد العلمية ويقول لي إني مع الوقت سأحبها وأن الكليات الأدبية ليس لها مستقبل .

مع إقتراب اليوم الفاصل بدأ أبي وأمي يتنافسان في إظهار الهدوء ويخفيان ترقبهما المميت لمعرفة النتيجة , لاحظت أن الدقائق تمشي ببطء ممل وكأنها تتأمر علي أعصابي المنهكة , حالتي النفسية كادت تنحرف نحو الجنون فأنا الأن محبوس في سجن الخوف والقلق وأنتظر سماع الحكم مهما كانت النتيجة حتى يتم الإفراج عني.

لاحظ أبي تدهور حالتي فعرض علي الذهاب للغذاء في أي مطعم من إختياري وافقت بسرعة قبل أن يغير رأيه فأهلا بأي شئ يحسن حالتي المزاجية طلبت وجبتي المفضلة البيتزا ولكن لسوء حظنا كان طعمها مقزز مما أشعل غصب أبي فنادى النادل وعندما جاء حدثه قائلا :

- كيف تجرؤن على تقديم طعام بهدا السوء إلا تخجلون من أنفسكم

رد عليه النادل بوقاحة :

- لا تتحدث معي تحدث مع المدير إذا أردت

- ولماذا ترد علي بهذه الطريقة ,إنك مجرد نادل لا يساوي شيئا

- أنا أحسن منك ,أنا خريج كلية الهندسة بتقدير جيد جدا ولولا إنعدام الوظائف التي لا تعتمد على الواسطة وحاجتي الشديدة للمال لما وقفت في هذا المكان وتحملت سخافات زبائن مثلك

- لا شأن لي بالكلية التي تخرجت فيها فأنا لن أترككم تأخذون مني ثمن هذا الطعام , صوت أبي العالي لفت نظر الزبائن فأجبر صاحب المحل على المجيء فوبخ الشاب على تكبره المستمر في التعامل مع الزبائن وخصم من مرتبه و عرض على أبي تقديم طعام أخر لإرضائه ولكن أبي رفض وأصر على مغادرة المطعم .

بينما كنا نجلس في السيارة رأى أبي على وجهي علامات ذهول وفهم سببها فحاول أن يقنعني أن هذا الشاب كاذب وأن خريجي كليات القمة مستحيل أن يعملوا في المطاعم لكني لم استطع تصديقه فهذا الشاب هو أكثر إنسان محبط ويائس ومكتئب رأيته في حياتي القصيرة وإنها لصدفة عجيبة أنه خريج الكلية التي أحرق أعصابي من أجل تحقيق شرف الإنتماء لها ,لقد سمعت وقرأت عن قصص خريجين الجامعات الذين يعملون في مهن لا تناسب مؤهلهم حتى لا يحملون عار البطالة ولكني كنت أعتبرها مجرد قصص تطالها مبالغات صحفية ,يبدو أن إنشغالي بتحقيق أعلى الدرجات فصلني عن الواقع مما أدى إلى إصابتي بالصدمة من رؤيته ,صورة هذا الشاب المتذمر الساخط الوقح لم تفارقني طوال اليوم وأجبرتني أن أسئل نفسي سؤال مخيف : هل من المحتمل أن أعمل مثله في المستقبل بعد كل هذا التعب ؟ لم أجد إجابة تعطيني اليقين بأن مستقبلي سيكون أفضل من النادل الغاضب وهذا معناه أن هناك إحتمال أكثر من 50% أن سهر الليالي والحرمان من النوم بل ومن كل شيء جميل في الحياة قد يتبخر في الهواء , ولكني لأول مرة شعرت بالتحرر من شعور الخوف من النتيجة بل فلا يهم بعد الأن إذا كانت درجاتي ستقودني إلى الزراعة أو الاقتصاد المنزلي طالما ظل شبح البطالة يلوح في الأفق وتلاشت لدي الرغبة في وضع كلمة مهندس بجانب اسمي , جاء يوم النتيجة وعرفت الرقم الفاصل وكان أقل من المطلوب كما توقعت بسبب درجاتي في الفيزياء والرياضيات مما يعني أن المخاوف تحققت و الهندسة أصبحت مستحيلة والغريب أني هذه المرة ابتهجت في داخلي بالرقم لأنه سيؤهلني للإلتحاق بكلية الاداب و دراسة اللغة الإنجليزية التي كنت أحبها سرا ,والدي أصيب بالإحباط في البداية وصب علي نار غضبه ولكنه بدأ الأن يتقبل الامر الواقع تدريجيا ,أحببت دراسة اللغة الإنجليزية لدرجة أني كنت من العشرة الأوائل في دفعتي فضحكت على الأيام التي أهدرتها في المخاوف والوساوس من أجل الإلتحاق بالكلية التي يحبها أبي وأمنت بالمثل القائل " رب ضارة نافعة " .



0 تعليقات