الزمان:1 فبراير 20التاسعة صباحا

المكان :بنك كبير بوسط المدينة

لم تمر دقائق على فتح البنك أبوابه حتى أمتلئ بعشرات المتقدمين الذين جاءوا للخضوع للاختبارات التي تجريها الإدارة من أجل إختيار الشخص المناسب لشغل وظيفة محاسب,كان الترقب والقلق هو المسيطر على مشاعر أغلبية الشباب وهم ينتظرون سماع اسمائهم في أي لحظة,بينما تسربت أحلام اليقظة إلى عقول البعض فتخيل كل منهم نفسه صاحب الحظ السعيد ولكن صوت السكرتيرة وهى تنادي على أول اسم أيقظهم من حلمهم الوردي.

توجه المتقدم الأول إلي غرفة مدير البنك بعد انتهاءه من إجراء امتحان في اللغة الإنجليزية والمحاسبة ,نظر المدير أمامه فوجد شاب طويل أسمر اللون أجعد الشعر تدل بدلته القديمة على أنه ليس من الأغنياء و تدل حركة عيناه المستمرة على خوفه الشديد,تطلع المدير إلى أوراقه وقرأ بيناته

الاسم :محمود جمعة السن:23 سنة

حاصل على بكالوريوس التجارة بتقدير جيد جدا شعبة محاسبة متفوق فترتيبه الثالث على الدفعة يملك معرفة جيدة باستخدام الحاسب الآلي كما يجيد اللغة الإنجليزية وذلك يتضح من إجاباته التي جاءت كلها صحيحة ولكنه يفتقد إلى الخبرة.

نظر المدير إلى محمود بعيون تملئها الجدية والصرامة وسأله:

- لماذا لم تعمل منذ تخرجك؟

- لقد تقدمت لأكثر من عشرة وظائف ولم يحالفني الحظ هل الخبرة شرط أساسي من أجل العمل في البنك؟

-لا ليست شرط ولكن من يمتلك خبرة بالطبع له الأفضلية

تحولت ابتسامة محمود في لحظة إلى عبوس معبر عن الإحباط الذي أصابه وقد أحس المدير بذلك فنظر له نظرة إشفاق قائلا:

-لا تتشاءم انك تملك مؤهلات جيدة وإذا وجدنا انك الأفضل سنتصل بك بالطبع والعمل قسمة ونصيب

هز المدير رأسه إلى الأمام محييا محمود فوقف محمود وودع المدير ثم انصرف إلى الخارج وهو مطأطأ الرأس حاملا قليل من الأمل

بعد دقائق معدودة دخل ثاني المتقدمين ,نظر المدير إليه فوجده شاب وسيم قوي البنية أبيض البشرة يرتدي بدلة فاخرة وتملأ رائحة عطره أرجاء الغرفة وقد نظر إلى المدير نظرة توحي بالغرور أعطته انطباع بأن هذا الشاب ينتمي إلى سادة مصر

طلب منه في صوت هادئ الجلوس ثم بدأ في قراءة أوراقه

الاسم:هاني حكمت السن:22سنة

المؤهل :بكالوريوس التجارة قسم المحاسبة بتقدير جيد يملك معرفة الحاسب الآلي ويجيد اللغة الإنجليزية كما هو واضح من إجاباته رغم أن إجاباته على أسئلة المحاسبة شابتها أخطاء كثيرة

قبل أن يبدأ المدير في الحديث معه أعطاه الشاب كارت صغير, نظر المدير إلى الكارت نظرة سريعة غيرت ملامحه في ثواني فابتسم إلى الشاب ابتسامة صناعية كبيرة وقال له :

-أهلا وسهلا يا أستاذ إن عمك من أعز أصدقائي ,لقد تشرفت بزمالته في الجامعة انه بالفعل من أفضل الناس الذين قابلتهم في حياتي ,لقد قدم لي خدمات كثيرة وأنا أعلم صعوبة المهام التي يفرضها عليه منصبه الكبير ولذلك لا أتصل به كثيرا ,كان الله في عونه

رد عليه الشاب بنبرة تحمل قدر من التكبر والتصنع قائلا:

-لقد حدثني عمي عنك كثيرا ومدح فيك ولقد أرسلني هنا وهو يعلم جيدا انك لن تخذلني خاصة أن عمي يعتقد أن شروط الوظيفة تنطبق علي

- لقد صدق عمك ,إن مؤهلاتك ممتازة وأي بنك يتمنى تعيينك لانك الشخص المناسب

- إذن هل أعتبر أن الوظيفة أصبحت من نصيبي؟

- طبعا يا أستاذ هاني أنا لا أستطيع أن أرفض لصديق عمري أي طلب ,سأتصل بعمك بعد أيام قليلة لأخبره بالموعد الذي تستطيع أن تأتي فيه لاستلام الوظيفة ,مبروك عليك مقدما ولا ننسى إرسال سلامي إلى عمك العزيز قبل أن أتصل به

- شكرا لك ,عمي سيبتهج كثيرا بما فعلته معي اليوم

غادر هاني المكتب وعلي وجهه علامات السعادة والانتصار ,انه حصل على وظيفة العمر بدون أدنى مجهود,ما أسعد حظه بعمه الحبيب.

الزمان :20 فبراير العاشرة صباحا

المكان: نفس البنك

كان البنك يفتح أبوابه وبينما يستعد الموظفون للجلوس على مكاتبهم دخل البنك المحاسب الجديد هاني حكمت لكي يبدأ أول يوم في حياته الوظيفية الجديدة بينما التف حوله عدد كبير من الموظفين لتهنئته بالوظيفة والترحيب به ,كان المنصب الكبير الذي يتمتع به عمه في الحكومة الجديدة كافيا لأغراء الكثيرين بمحاولة التقرب له ولكنه كشف نواياهم مبكرا وعاملهم بفتور ولامبالاة

الزمان :1مايو السابعة صباحا

المكان:مطار القاهرة الدولي

كانت الطائرة المصرية المتجهة إلى العاصمة الكندية تورنتو تستعد للإقلاع بينما كان محمود جمعة الجالس على متنها ينظر إلي السماء المصرية لأخر مرة ,كان قلبه ممتلئ بكم من المشاعر المتناقضة ,مشاعر الألم والحزن لفراق أهله الأعزاء الذين فعلوا المستحيل لتدبير تذكرة السفر له بعد أن أدركوا أن الهجرة هي المهرب الوحيد لأبنهم من الحصول علي شهادة عاطل إلي الأبد,ومشاعر الأمل والتفاؤل بمستقبل جديد وحياة جديدة في وطن جديد يأمل أن يعطيه فرصة تحويل أحلامه إلى حقيقة واقعة ويرد له إنسانيته المفقودة ويعطيه الشعور بأن مواطن حقيقي لديه حقوق قبل أن تكون عليه واجبات وهو لن يبخل عليه بالمجهود والعمل والمثابرة حتى يحصل على الحياة التي يتمناها ,لقد أحس محمود بأن شمعة الأمل قد أضيئت له من جديد عندما وافق عمه الثرى المقيم في كندا أن يرسل له دعوة للسفر إلى هناك بعد أن علم من والده باستحالة عثوره على وظيفة في مصر و وعده بمساعدته على إيجاد عمل في كندا خاصة مع إتقانه للإنجليزية, كان محمود واثقا أنه لن يسمع أبدا كلمة مفيش نصيب في كندا ,تلك الكلمة الثقيلة على نفسه التي اخترقت أذنه عشرات المرات كنوع من الاعتذار المؤدب الذي تقدمه جهات العمل عن عدم قبوله بالوظيفة المتقدم لها,ومع ذلك فهو لم يكن ساذجا حتى يجهل السبب الحقيقي لرفضه ولكنه كان يخدع نفسه بأمل مصنوع من سراب ولكنه استيقظ من وهمه وشكر الله في سره لأنه فتح له أبواب الرزق في مكان جديد .



0 تعليقات