كل عام في شهر مايو يتزامن ارتفاع درجات الحرارة الجو مع ارتفاع درجة حرارة التوتر والقلق لدي بسبب اقتراب موعد الأمتحانات وكثرة أعداد الكتب المطلوب مني إدخالها في ذاكرتي الضعيفة التي لا تحتمل حفظ أكثر من مئة صفحة من الكتاب الواحد , ولذلك أعتدت أن أمشي في حجرتي وأنا أردد عدة مرات المعلومات كالمجانين وأنا أدعو الله أن يساعدني على تذكر الحد الأدنى من المعلومات لكي أنجح وأنهي السنة الدراسية بدون علامات حمراء حول الدرجات .
قبل موعد أول إمتحان بيومين شعرت أن عقلي يكاد أن ينفجر من كثرة المعلومات بداخله فقررت فورا أن أريح عقلي المسكين بمشاهدة فيلم السهرة في التليفزيون الذي تحلو برامجه في عيني خلال فترة الأمتحانات رغم أني لا أطيقه في الصيف ولكن يبدو أن كل ممنوع مرغوب .
وجدت بدلا من الفيلم برنامج حواري سياسي فكدت أن أغلق الجهاز ولكن منظر الضيف وكلامه جذبني على غير العادة ,كان الضيف يدعى وحيد البلوشي وهو كاتب وصحفي بالطبع لم أسمع عنه لأني لا احب أن أضيع وقتي في قراءة الصحف السياسية المملة خاصة مع توافر المجلات الفنية ومجلات الأزياء التي تعد اكثر أمتاعا وإفادة بالنسبة لفتاة عصرية مثلي ولكن الطريقة الحماسية الغاضبة التي كان يتحدث بها الرجل جذبتني إلى متابعته وكان موضوع الحديث هو مؤمراة الغرب لإضعاف الدول العربية و بما أن معلوماتي عن هذا الموضوع المعقد صفر فقررت مشاهدة البرنامج لعلي أخرج بمعلومة مفيدة ,سمعت كلام خطير من الرجل الذي كشف أن أمريكا لا تفكر ولا تهتم بالليل أو النهار سوى بإضعاف الدول العربية و التأكد من بقائها في صفوف الدول المتخلفة لأطول فترة ممكنة والقضاء على هويتها الاسلامية عن طريق إضعاف تأثير الدين في حياة العرب و هذا هو السبب الذي جعلها تحتل العراق وتترك يد اسرائيل لقتل الأخوة الفلطيسنين المساكين بلا رحمة و لكن أهم ما قاله هو أن التخلف الذي تعاني منه مصر سببه أمريكا وأسرائيل لأنهما يعلمان جيدا أن المصريين هم أذكى شعوب الارض ولذلك يحاولان التأمر علينا بشتى الطرق لإضعافنا مثلا من خلال الفيديو كليب الأباحي الذي يشك أن من يقدموه هن عميلات سريات للمخابرات الأمريكية وأن هدفه هو إشغال الشباب عن الدراسة وإثارة غرائزهم حتى لا يقدمون أي شئ مفيد لبلدهم كما أنهم يصدروا لمصر مواد غذائية سامة وهي التي رفعت من معدلات الأصابة بالسرطان حتى يموت أكبر عدد من الناس كما أن أمريكا تتأمر على البحث العلمي في مصر بجذب العلماء الأذكياء إليها عن طريق إغرائهم بالمال حتى تظل مصر تستورد كل شئ من أمريكا وقال أنه يتعاطف مع المسئولين المصريين لأنهم يبذلون أقصى جهدهم من أجل مقاومة هذه المؤامرات ولذلك فإن أقل شئ يجب أن نفعله هو أن نجعل أمريكا وأسرائيل تعلمان أننا لسنا أغبياء وأننا نعلم بتلك المؤامرة عن طريق الإكثار من المظاهرات الجماعية لإعلان رفضنا واستنكارنا لجرائم أسرائيل في فلسطين وجرائم أمريكا في العراق فتلك المظاهرات تزعج أمريكا وأسرائيل لأنهما لا يخافان أكثر من الشعوب الغاضبة الصارخة مما قد يدفعهم لتغيير مواقفهم و إرضاء الشعوب العربية بأعطاء الفسطنينين حقوقهم والخروج من العراق كما من الواجب على كل مواطن عربي أن يقاطع المنتجات الامريكية كما فعل هو و لقد تعجبت من قوة النزعة الوطنية لدى هذا الرجل الذي قال أن لسانه لم يتذوق البيبسي منذ أكثر من سنتين رغم أنه مشروبه المفضل وكذلك لم يأكل أي قطعة هامبورجر من ماكدونالدز رغم حبه الشديد للهامبورجر أما المفاجأة الكبيرة فأنه رفض مجاراة العصر واستخدام الكمبيوتر لأنه عرف أن برامجه تٌصنع في أمريكا وقد قام الرجل بكل تلك التضحيات الكبيرة من أجل عيون الشعوب العربية الصامدة ونكاية في الأمريكان الظلمة ,بعد أن أنتهى الحوار وجاء فيلم السهرة لم أنتبه له كثيرا لأن صدى كلمات الأستاذ وحيد كان يرن في أذني و جعلني أخجل من نفسي فقد كنت أسخر دائما من طلبة الجامعة الذين يمشون في هذه المظاهرات وأقول بيني وبين نفسي ياليتهم يمضون هذا الوقت في التنزه و التمتع بشبابهم مثلي بدلا من الصراخ والهتاف الفارغ ولكني الأن قدرت وطنيتهم وعرفت مدى تفاهتي و جهلي ,يبدو أني ظلمت الحكومة عندما أعتقدت أنها السبب في كل المصائب التي تحل بالبلد ولكني الأن أدركت أنهم يبذلون جهود خرافية من أجل صد المؤامرات التي تخطط لها أمريكا الشريرة وأختها أسرائيل اللئيمة .
في اليوم التالي وبينما كنت أستعد للخروج من الكلية بعد أن أنتهيت من أول الأمتحانات سمعت صوت هتاف جماعي عالي ينطلق من مسافة قريبة يبدو ظاهريا كهتاف مشجعين الأهلي والزمالك ولكن بما أنه لم يكن هناك مبارايات أمس فقد أدركت أنها مظاهرة جديدة للشباب الوطني الذين كنت ألقبهم سابقا بالمغفلين ,تذكرت بسرعة كلام الأستاذ وحيد عن أهمية المظاهرات فقررت أن اقترب من تلك المظاهرة لمعرفة مضمونها .
عندما أقتربت وجدت مجموعة من الشباب يزيد عددهم عن الخمسين يهتون بصوت عالي بسقوط أمريكا وأسرائيل فأدركت أنهم ربما تابعوا حوار الأستاذ وحيد وأثر فيهم مثلي فدعوت الله في سري له لأنه أيقظ مشاعر الوطنية والقومية داخل الشباب فشعرت بالحماس والشجاعة لأول مرة في حياتي قررت أن أمشي معهم فأدخلت نفسي سريعا بينهم و بدأ ت أردد معهم هتافاتهم القوية المليئة بالسباب المختار لأمريكا وأسرائيل مثل "يا أمريكا يا مفترية بكره تجيلك كارثة قوية "و "يا صهاينة أتلموا بقى خليتوا فلسطين محرقة " ورغم أني لا أعرف من هم الصهاينة ألا أني لم أحاول أن أسأل حتى لا يٍُِِِحكم علي بالجهل فأخذت أقلد الباقين في الهتاف وفكرت أن أهلي أو أو صديقاتي لو رأوني الأن لاندهشوا لأنهم يعلمون أني لا أعرف ألف باء سياسة ولكن الفضل كله للأستاذ وحيد .
بعد أن أنهى الجميع وصلة قصيرة من الهجاء والسباب كان الدم يتدفق في عروقي بشدة من فرط الحماس فعندما وجدت الشباب يهمون بالخروج من الجامعة للتعبير عن أرائهم في الشارع لم أتردد في الخروج معهم ولكن يا ليتني ما خرجت فيبدو أن عساكر الأمن المركزي سمعوا أصواتنا فوجدناهم ينظرونا على باب الجامعة لمنعنا من الخروج ولكننا لم نهتم بهم و قمنا بكل شجاعة بنزع السلاسل عن الباب و الخروج في الشارع وسط السيارات لإكمال مظاهرتنا التاريخية و لكن العساكر تحدونا ففوجئت بهم يجرون ورائنا في الشارع كأننا قرود هاربة من حديقة الحيوان وعندما لحقوا بنا رشوا علينا غاز غريب أدى إلى أثارة الدموع في أعيننا مما حول مسيرتنا العظيمة إلى كارثة كبيرة .
بعد ذلك قام عدد كبير من العسكر بضربنا بالعصيان عقابا لنا على مخالفة أوامرهم ولسوء حظي كان نصيبي كبيرا من الاهانة ففضلا عن عيني التي كانت تحرقني من الغاز وجدت عصا كبيرة تضرب جسدي بقوة فوقعت على الارض من الألم ولم أشعر بالدنيا لمدة غير محددة وعندما عدت إلى وعيي وجدت نفسي مع مجموعة من بنات المظاهرة المناضلات في مكان مظلم قذر فأستنتجت فورا أنها زنزانة القسم ,نظرت إلى ملابسي فوجدتها متسخة ونظرت إلى جسدي فوجدت فيه علامات حمراء من أثر الضرب الذي جعل عظامي مهشمة , لم أجد طريقة للتعبير عن ضيقي بالمكان إلا البكاء كالطفلة الصغيرة البلهاء .
بعد فترة قصيرة أستدعانا ضابط القسم وطلب منا اسمائنا وعنوانينا حتى يأتي أهلنا لأستلامنا فقلت اسمي وعنواني كغارق يبحث عن طوق النجاة وأنا أدعو أن يأتي أهلي في أسرع وقت ممكن لإنقاذي وكان الله كريم معي فبعد ساعتين تقريبا وجدت العسكري ينادي على اسمي فقفزت فرحا بالفرج , رأيت أبي وأمي يبدو عليهم الخوف واللهفة فلم أمنع نفسي من البكاء وأحضتنهم وأن أقول لهم "أنا أسفة سامحوني " نقلت لهم عدوى البكاء فتحول اللقاء إلى مشهد أخر من فيلم عربي قديم , قبل أن يفرج عني الضابط خاطب والدي بلهجة تحذيرية قائلا "أبعدا أبنتكما عن المظاهرات أنها تبدو جديدة عليها ولن تنول منها إلا المتاعب والإهانات .
صدق هذا الرجل فبعد مرور هذا اليوم الأسود تعجبت في البداية لماذا قسى علينا العساكر بهذا الشكل رغم أننا لم نلعن الرئيس ولا أي فرد من أفراد الحكومة المبجلة ثم طرحت على نفسي سؤال مهم وهو لماذا أقمحت نفسي في هذ المظاهرة من الأساس فتذكرت وحيد البلوشي فلعنته في سري فهو الذي حرك عواطفي الوطنية ودفعني لهذا العمل المتهور الذي أوقعني في شر أعمالي ولكني أيضا لمت نفسي لأني نفذت كلامه بسذاجة وأخذت أردد أشياء لا أعرفها جيدا , وفكرت أن الشعب العربي لن يفيدني بشىء إذا أصبت بعاهة مستديمة و لن يصنع لي تمثال إذا فقدت حياتي من جراء تلك المظاهرات المجنونة وبما أن أثار الضرب على جسدي أصابتني بالخوف المرضي من مشاهدة المظاهرات ولو في التليفزيون لذلك فقد قررت وأنا في كامل قواي العقلية أن أتخذ منزلي المتواضع كمكان للتعبير عن أرائي فمنزلي بفضل الله واسع وحجراته كثيرة وكلها مناسبة للصياح والهتاف خاصة الحمام

0 تعليقات