ذكريات صيفية

اكتشفت أنني  مصابة بمرض النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي, هذا المرض الذي  يجعلك طول الوقت تفكر في أيام طفولتك وتتذكرها بابتسامة حزينة وتتحسر عليها وتحكيها للآخرين بشغف وحماس , وعادة ما يشتد علي الحنين إلى الماضي مع حلول الخريف وانتهاء الصيف لأن هذه الفترة من السنة تعيدني إلى أكثر من عشرين سنة  إلى أيام طفولتي, إلى  أخر أيام الصيف, إذ كنت أنا وأسرتي نقضي الأيام العشر الأولى من سبتمبر في مدينة مرسى مطروح, كانت مرسى مطروح  ولا تزال هي المصيف المفضل عند المصريين بسبب هدوئها الشديد ولون بحرها التراكواز الخلاب ورخص أسعار  تأجير الشقق والشاليهات, رحلتنا كانت مختلفة لأننا  لم نكن نقيم في شقة وإنما في مخيم تابع لوزارة الثقافة التي كان أبي يعمل بها كمراقب مالي, حياة المخيم قد تكون صعبة وغريبة  لأنك في المخيم تفتقد الخصوصية إذ لا يفصلك عن جيرانك سوى القماش الثقيل الذي تصنع منه الخيمة ولكن  حياة في مخيم وزارة الثقافة كانت ممتعة إلى أبعد حد فالمخيم  كان نظيفا  ومنظما كما أن إدارة المخيم كانت تعمل ليلا ونهارا من أجل إسعاد المصطافين وتوفير وسائل الترفيه والتسلية لهم. كان المخيم ينقسم إلى عدة أماكن, مطعم  كبير ومميز يقدم للمصطافين الإفطار والغداء والعشاء في مواعيد منتظمة, كافتيريا كبيرة تطل على البحر مباشرة وفيها محل خردوات يبيع الحلويات ويقدم للزبائن الألعاب مثل الشطرنج والطاولة والكوتشينة, شاطئ هادئ كبير تابع للمخيم كما أن إدارة المخيم  كانت تنظم رحلات يومية إلى شواطئ مرسى مطروح الشهيرة مثل روميل وعجيبة والأبيض وشاطئ الغرام وفي المساء تنظم  حفلات سمر حيث يجتمع رواد المخيم ويقومون بإبراز مواهبهم في الغناء والعزف وإلقاء الشعر والنكات والرقص, كانت رغبة رواد المخيم في قضاء وقت ممتع والابتعاد عن هموم الحياة في القاهرة هي التي تجعل الإقامة في المخيم تجربة ممتعة وجميلة , كنت في ذلك الوقت طفلة تريد أن تلعب وتلهو طوال اليوم وكنت  من فرط حبي للسباحة  في البحر أذهب إلى الشاطئ مرتين في اليوم مرة بعد الإفطار ومرة أخرى بعد الغداء كما كنت استمتع بالذهاب لشاطئ روميل واصطياد السمك الصغير الذي يسبح بالقرب من الشاطئ  ببقايا الخبز وكنت أحمل السمك الذي اصطدته للخيمة في كوب صغير وأنا أشعر بالفخر كأنني اصطدت سمكة قرش وما أن تمر بضعة أيام حتى يتعفن السمك فتقوم أمي بإلقائه في سلة القمامة.

   ورغم استمتاعي بحياة المخيم  إلا أنني كنت أشعر بالملل  والوحدة بعد انقضاء أيام قليلة  من المصيف, السبب الأول يعود إلى  طبيعة مدينة مرسى مطروح  الصغيرة التي لم تحتوِ في ذلك الوقت على أي وسائل ترفيه  مثل  السينما والمسرح والملاهي ولا يوجد فيها سوى شارع تجاري واحد اسمه سوق لبيبا, السبب الأخر أنني لم أكن أجد أطفالا  ألعب معهم  لأنني وحيدة أهلي بينما  كان بقية الأطفال في المخيم يلعبون مع أخوتهم, لذلك كنت اضطر أن أجلس مع الشباب الأكبر سني مني وأحاول التشبه بهم ومجاراتهم في الحديث حتى ينقضي الوقت وتنتهي أيام المصيف, يأتي يوم الرحيل وأعود  إلى القاهرة  بزحامها وتلوثها وغبارها وضوضائها وأنا حزينة , أعود ومعي نفحات من مطروح , بشرة داكنة مشوبة بحمرة الشمس, لب أبيض ممتاز , بقايا من أطعمة المخيم  و أحذية مخلوطة برمال البحر وصور متفرقة لي ولأهلي  أمام الشاطئ.

 مرت السنوات وتوقفنا عن الذهاب لمطروح بعد أن أٌحيل والدي على المعاش ثم عرفت منه  أن المخيم تم هدمه وتم بناء شاليهات بدلا منه في نفس المكان, و من سنوات قليلة دفعتني النوستالجيا إلى استعادة  ذكريات الصيف القديم , سافرت  في رحلة ليوم واحد إلى مطروح وأنا مشتاقة للنزول في مياهها الفيروزية والتمتع برمالها الناعمة ولكني للأسف لم أحصل على المتعة التي كنت أتمناها  لأن المدينة  تغيرت مع ازدياد عدد السكان وصارت شوارعها أكثر ازدحاما و صارت ممتلئة بالشواطئ الصناعية التي تخلو من الأمواج و تفتقد للنظافة, كما اكتشفت أنني أيضا تغيرت ولم أعد كما أنا , لم أعد تلك الفتاة المرحة التي لا تمل ولا تكل من اللعب,  لم أعد أستمتع بالسباحة في مياه البحر لساعات طويلة  ولم أعد أقوى على تحمل لهيب شمس الصيف,  في النهاية  أدركت أن  محاولة إحياء ذكريات الماضي   مثل محاولة  بث الروح في شخص ميت وأن  أفضل شيء يمكن أن تفعله حيال ذكرياتك  الجميلة هو أن تحتفظ بها كما هي بحيويتها وجمالها في ركن بعيد في عقلك وبإمكانك أن تهرب إلى هذا الركن وتقيم فيه بشكل مؤقت  كلما شعرت أنك غير قادر على تحمل قسوة الواقع.