بمجرد أن رأت نيرمين أمها تدخل المطبخ لتحمل سلة الخضار حتى جرت نحوها وهي تهتف بلهفة :"خوديني
معاكي يا ماما والنبي".
نظرت منال إلى نيرمين بشفقة,
إنها تعاني من الملل الناتج عن طول جلوسها
في المنزل في أجازة الصيف وتريد الخروج والتنزه , ولكن الذهاب للسوق ليس نزهة, إنه
مشوار ثقيل لم تكن لتقوم به لو وجدت من يشتري لها ما تريده بدون أن يسرقها.
أخذت منال تتطلع إلى وجه ابنتها الصبوح , إن نيرمين في العاشرة ولكنها يوما ما ستكبر ستتزوج
وستصير ربة منزل, وقد آن الأوان أن تتعلم كيف تختار الخضار والفاكهة , وكيف تفاصل
مع البائع حتى تحصل على أفضل سعر.
ابتسمت لها قائلة: " البسي بسرعة"
كان شارع السوق رغم اتساعه وطوله يبدو
ضيقا بسبب امتلائه بالباعة الجائلين والمحلات هاجمت نيرمين رائحة العفن المنبعثة من صناديق القمامة الواقعة في مدخل شارع السوق . غطت نيرمين أنفها بيدها وأخذت تمشي بحذر حتى تتجنب
الحفر والمطبات وبرك المياه التي يعج بها الشارع
بينما أخذت أمها تبحث عن عم مصباح
بائع الفواكه , وجدت رجلا أخر يقف مكانه وأمامه عربة مليئة بالعنب الأحمر والأبيض , كان الرجل مستدير
الوجه, أهوش الشعر ,متوسط الطول, يطل من
عيناه الخمول كأنه استيقظ لتوه من النوم,و كان
يقف بجواره طفل صغير يشبهه يساعده
في وضع العنب في الأكياس للزبائن.
اقتربت منه وسألته :" فين عم
مصباح ؟",عبس في وجهها ورد عليها بحنق :"معرفش ", طريقته في الرد أزعجتها, كادت تبتعد عنه لولا أن عينيها وقعت على سعر العنب الأحمر,
ستة جنيهات فقط :" يا بلاش ", مدت يدها وأخذت حبة
حمراء داكنة ثم أخذت تشرح لنيرمين كيفية اختيار العنب : " بصي لما تيجي تشتري عنب أحمر اختاري الغامق لأن .... قاطعها البائع : " هتشتري
يا أبله ولا إيه ؟"
" ايوه هتشتري أوزن لي اتنين
كيلو ",حمل الرجل عناقيد العنب
ووضعها فوق الميزان سريعا بينما فتحت منال حقيبتها وأخرجت منها عشر جنيهات, أخذت
تبحث عن جنيهات معدنية لتكمل بها المبلغ المطلوب, اكتشفت أنها لم تحضر معها "
فكة" فاضطرت أن تستبدل العشر جنيهات بعشرين جنيها,أعطت للرجل النقود ولكنه لم
ينتبه إليها لأنه كان مشغولا في الحديث مع زبون آخر, مد ابنه يده ليأخذ منها
النقود , " أنا عايزة منك ثمانية جنية " , لم تكد تستكمل العبارة حتى
وجدته يجري بعيدا عن العربة , اعتقدت أنه يبحث عن أحد ليعطيه " الفكة , طال
انتظارها ولم يعد الولد ولم تحصل على العنب, التفتت للبائع وقالت له" أنا
عايزة العنب وباقي الفلوس ". تطلع
إليها باستغراب " انا ماخدتش
منك فلوس "
ردت عليه منال بانفعال "
والله أنا اديت الفلوس لابنك , وكان المفروض يديني الباقي , بس مش عارفة هو راح
فين ".
هتف البائع : "واد يا صلاح ؟" ,ظهر الولد فجأة ثم جرى ناحية أبيه ملبيا النداء , اقترب منه أبوه
متسائلا :"الست دي ادتك تمن العنب ؟".
تطلع الولد لمنال بدهشة كأنه يراها لأول مرة في حياته ثم قال لأبيه : " لا يا با ماخدتش منها حاجة
" , تطلعت منال للولد بغيظ
ودمدمت :"انت كداب والله العظيم انا
اديتك الفلوس دلوقتي والناس كلها شافتني "
اندفعت نيرمين لتدافع عن أمها :"
أيوه ماما ادتك الفلوس دلوقتي يا حرامي",
رد عليها البائع صائحا :" انتم
اللي حرامية وولاد .... ",
اخترقت كلماته أذني نيرمين كأنها طلقات رصاص, كانت هذه أول مرة تسمع فيها هذا اللفظ القذر, شهقت
وتطلعت إلى أمها بفزع , تضرج وجه
منال بحمرة الغضب ثم صاحت في الرجل :"
ايه قلة الادب دي؟ , انت باين عليك اتفقت مع ابنك علشان تنصبوا عليا, أنا مش دفعالك ولا جنية , أنا عايزه العنب بتاعي"
أخرج الرجل من جيبه مطواة قرن غزال
أخذ يلوح بها في الهواء وقال لها بهدوء مخيف :" لا هتدفعي تمنه غصبا عنك,ومش
هتاخديه كمان"
أطلقت نيرمين صرخة مكتومة ,أمسكت بذراع أمها وهي ترتجف رعبا, تجمدت الدماء
في عروق منال, تصلبت في مكانها , تلجم
لسانها بينما أخذت حبات العرق تصبب من
رأسها , لم تعرف كيف تتصرف , إن ما يحدث
لها لا يمكن أن يكون حقيقيا ,إنه بالتأكيد كابوس مفزع يجب أن تستيقظ منه سريعا ,
أرادت أن تهتف بأعلى صوتها : " الحقوني
يا ناس " ولكنها عندما نظرت حولها وجدت صم بكم عمي يشترون طعامهم في صمت ,
حينئذ أدركت أنها وحيدة وهي ابنتها في الزحام , فوجئت
بالبائع يمد يده نحو حقيبتها, قبضت يديها بقوة على الحقيبة ثم فتحتها سريعا و أخرجت منها عشرين جنيها, ألقت
النقود في وجهه وهي تصيح " اوعى تكون فاكر ان اللي عملته ده هيعدي على خير
أنا هبلغ عنك البوليس"
تظاهر البائع بالخوف وهو يسألها " البوليس حتة واحدة ؟ " ثم غرق في نوبة جنونية من الضحك كأنه استمع لأطرف نكتة في حياته,جلجلة ضحكته
ضاعفت من خوف نيرمين فالتصقت بأمها وهتفت لها متوسلة " يلا نروح بقى يا ماما ".
تطلعت منال إلى السماء بوجه شاحب
وعينين تسبح فيهما الدموع , ثم رمقته
باحتقار قائلة : " حسبي الله ونعم
الوكيل فيك , يارب الفلوس دي تدخل عليك بالخراب"
هز البائع رأسه في استهانة : "
وماله خلي ربنا ياخد لك حقك مني"
اتسعت عينا منال ونيرمين من الذهول بينما توقف الناس عن الحركة وصبوا نظرات نارية على
الرجل , اختلج وجهه وأصابه الارتباك للحظات
لكنه سرعان ما استعاد قوته أخذ يصيح فيهم ملوحا بالمطواة :"مالكم بتبصوا لي ليه كده فيه إيه, ما تخليكم في حالكم ".
أشاح الناس بوجوههم بعيدا عنه وأكملوا سيرهم ,أدارت منال ظهرها له وأمسكت بيد
نيرمين وخرجت بسرعة من السوق, ثبتت منال عيناها على الأرض وظلت تمشي
في صمت ووجوم, كانت تختلس نظرات سريعة نحو
نيرمين فترى عينيها تنطق بالحزن والصدمة
واللوم والغضب, تنطق بعشرات التساؤلات التي لا تستطيع الإجابة عنها, , أعادت منال
التفكير في الحادث بأكمله وأخذت تحلله من
كل جميع الجوانب, لمعت عيناها فجأة, توقفت
عن المشي وتطلعت إلى نيرمين بغضب وقالت لها " مالك بتبصي لي كده ليه ؟ "
انتي السبب في كل اللي حصل ده ؟, لو
مكنتيش اتسحبتي من لسانك وزعقتي للبياع مكانش شتمنا وعاند معانا؟" أنا غلطانة
اني اخدتك معايا السوق"
استولت الصدمة على نيرمين فعجزت عن الرد على أمها,
رفعت منال رأسها إلى أعلى وأكملت سيرها بخطوات واثقة, بينما أطرقت نيرمين برأسها
في الأرض ومشيت وراء أمها بخطوات متثاقلة وقد اعتراها شعور عنيف بالذنب.
0 تعليقات
رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته