أفضل وسيلة للتغلب على الملل
صباح جديد هادئ أقضيه جالسة في حجرتي أقرأ, القراءة بالنسبة لي هي أفضل وسيلة للاستفادة من وقتي والحصول على المعرفة.
 رغم أن الكتاب الذي أقرأه ليس مملاً والمعلومات الواردة فيه شيقة وتستحق الاهتمام  إلا أنني لا أشعر بالمتعة أثناء قراءته ولا استطيع التخلص من الأفكار المكررة التي تقفز في عقلي كالقرود الهائمة.
 كلما أجبرت نفسي على التركيز كلما اكتشفت أنني عاجزة عن استيعاب ما أقرأه.
يناديني صوت غامض ويدعوني للتوقف عن القراءة, المشكلة إني لم أكد أبدأ, لذلك أقرر أن استمر حتى انتهي من قراءة عشر صفحات على الأقل.
 أرى السطور تتراقص أمامي , تبتعد ثم تقترب, الجمل تبدو صعبة وغير مفهومة, وشعور غامض وثقيل يتسلل إلى نفسي ويجثم على أنفاسي.
إنني أعلم جيدا هذا الشعور, انه الملل, هذا العدو اللدود الذي يسعى لصداقتي منذ الأبد ولكني أكرهه وأرفض احتمال وجوده ولو لثوانٍ وأحاول الهروب منه بكل الطرق. أقرر أن اتوقف عن القراءة والتي ربما هي سبب اجتياح الملل لنفسي.
يقف الملل  فوق رأسي كغيمة ثقيلة, تلك الغيمة تجعلني أرى  كل شيء في حجرتي باللون الرمادي, أشعر أن حجم حجرتي يصغر حتى تبدو لي كأنها سجن بقضبان غير مرئية  أحاول الهروب مجددا, أهرع نحو النافذة وأفتحها وأطل منها على الشارع .
 تنتابني رغبة مفاجئة في الخروج والتنزه, ولكني عندما أتأمل تفاصيل الشارع أشعر بالضيق, الشارع  مكتظ على آخره بالناس ووسائل المواصلات, السيارات والاتوبيسات تتصف وراء بعضها في طابور طويل بلا بداية ولا نهاية, الأبواق تتصاعد لتنشر ضجيج يدمر طبلة الأذن. الضيق يعلو وجوه أصحاب المركبات بينما يحاول كل مواطن أن يحشر جسده بين السيارات ويجد لنفسه مكانا ليسير فيه. يستولي علي الإحباط لأني أعلم أنني لو نزلت لن أستطيع العثور على مكان أمشي فيه, أمامي أن أهرب من معاناة الملل إلى معاناة الزحام أو أبقى كما أنا في مكاني واستسلم لهذا الملل الذي يقتل روحي ببطء.
 أفكر في سبب وجود الملل في الحياة, الملل يأتي من التكرار والروتين والرتابة.
الروتين جزء أساسي من الحياة, هناك موعد وتوقيت محدد لكل شيء في الحياة, موعد لشروق الشمس وموعد آخر لغروبها, موعد لبداية ونهاية كل فصل, موعد للميلاد وموعد آخر للموت, كل هذه المواعيد محددة بالدقيقة والثانية. هناك أيضا مواعيد تحكم حياة الإنسان. موعد للاستيقاظ, موعد لتناول الطعام وموعد للذهاب للعمل أو مكان الدارسة ,موعد للراحة والترفيه وموعد للنوم, تلك المواعيد تتكرر كل يوم ولا تتغير إلا نادرا, جميعنا نتمنى أن نغيرها لكننا لا نستطيع لأننا بذلك نخالف قوانين الكون ونحول الحياة إلى فوضى.
الجسد والعقل يحب الروتين ويحب تكرار نفس العادات بينما الروح يرهقها التكرار, العقل يحب الانضباط والالتزام والروح تتوق إلى المغامرة والاستكشاف والتغيير, قواعد العقل ومتطلبات الجسد هي التي تحكم الإنسان فتجعله عبدًا للوقت وعبدًا لاحتياجات جسده وعبداً لالتزامات العمل والأسرة.
يجد نفسه يكرر كل شيء في يومه بحذافيره حتى تصرعه دوامة التكرار, يصير عاجزا عن التفرقة بين الأيام ثم يتحول الزمن بالنسبة له إلى يوم طويل جدا بلا نهاية.
تعبر الأساطير الإغريقية عن تلك الفكرة من خلال قصة سيزيف الرجل الذي عاقبه كبير الآلهة زيوس على خداعه ومكره بأن جعله يحمل صخرة ضخمة على تل منحدر, قبل أن يبلغ قمة التل تنزلق منه الصخرة فيضطر أن يحملها إلى أعلى مجددا وهكذا يقضي حياته في تكرار نفس 
العمل بلا أمل في التغيير.
اسطورة سيزيف

يرى الفيلسوف الوجودي الفرنسي البير كامو أن قصة سيزيف ترمز إلى الهراء والسخف واللامنطقية واللاعقلانية التي تسيطر على الحياة الإنسانية. ولكني أراها ترمز إلى الملل والتكرار والرتابة التي تسيطر على الحياة, فحتى لو كان العمل الذي نقوم به له معنى وجدوى فإن تكراره كل يوم بنفس الطريقة يقتل الشغف والاهتمام بالعمل. وسرعان ما يفقد الإنسان إحساسه بنفسه وبحياته وبجدوى ما يقوم به, بل ويفقد إنسانيته نفسها, ويتحول إلى آلة تدور في صمت وتكرر نفس العمل بدون تفكير أو تدبير أو مناقشة.
يحاول الإنسان أن يهرب من جحيم الملل باللجوء إلى المتع التافهة والعاجلة كالتليفزيون والانترنت والألعاب الالكترونية والمحادثات في العالم الافتراضي, تلك المتع تعطيه مسكنات مؤقتة سرعان ما يزول مفعولها بعد انتهائها ويعود الملل ليهاجمه بشكل أكثر ضراوة.
أدرك أنه لا جدوى من الهروب من الملل لأنه جزء لا يتجرأ من حياة كل إنسان.
عندما اتقبل  حالتي النفسية كما هي تخف وطأة الملل على نفسي.
تنتابني رغبة قوية في التعبير عن المشاعر والخواطر التي تعصف بذهني, افتح ملف الأفكار لدي وأشرع في الكتابة, اكتب بدون تفكير طويل, ورغم ذلك أشعر أنني أعلم جيدا ما أريد أن أكتبه, أشعر بالمتعة لأني قادرة على تحويل الأفكار التي تجول برأسي إلى  كلمات وترتيبها في سطور. تتبخر غيمة الملل ويتسلل إلي الهدوء النفسي, بعد أن انتهي من الكتابة اتوصل إلى حكمة حديدة. الوسيلة الأفضل للتغلب على الملل ليس الهروب وليس الهاء الذات بأي شيء تافه, الوسيلة الأفضل للتغلب على الملل  هي الانغماس في الإبداع ,الإبداع هو السعي وراء بناء شيء من العدم, هو إعطاء معنى وقيمة لكل الأشياء التي تبدو بلا معنى أو رابط, الإبداع هو إضفاء روح على الأشياء الجامدة, هو القدرة على رؤية المألوف بعين جديدة من أجل التطور والوصول إلى الإلهام والحصول على المعرفة.
كل شخص لديه مبدع صغير يسكن بداخله, وكلنا نستقي القدرة على الإبداع والخلق من الخالق الأكبر الله سبحانه وتعالي.
الملل هو أحد المراحل التي تسبق الإبداع, فقوة الملل تدفع الإنسان إلى البحث والتفكير عن شيء جديد يبتكره لكي يحرره من سجن الرتابة, وهنا تتابع الأفكار على الذهن ويبدأ  المرء في التجريب مثل الطفل إلى أن يتمكن من تحويل أحلامه إلى حقيقة.
الإبداع هو  الوسيلة الأمثل للتغلب على الملل لأن الإبداع هو روح الحياة.

0 تعليقات