داخل القفص
كان هناك عصفور صغير  جميل, عنقه ناصع البياض, ريشه ذهبي طويل يتلألأ تحت أشعة الشمس ومنقاره برتقالي مدبب.
 كان العصفور مثل باقي زملائه العصافير يقضي يومه في الطيران من شجرة إلى شجرة بحثا عن الطعام والمأوى. 
كان سعيدا بحياته رغم المجهود الشاق الذي يبذله حتى يحصل على الطعام, ورغم الخوف الدائم الذي ينتابه من السقوط صريعا في أي لحظة تحت بنادق الصيادين.
  في يوم من الأيام وقف العصفور فوق جدار احدى الشرفات لكي يستريح من عناء الطيران المتواصل,  فجأة شعر بيد قوية تقبض عليه وترفعه من فوق الجدار وقبل أن يتمكن من الهروب وجد نفسه محبوسا في قفص معدني كبير. رأى فتاة شابة تنظر له بسعادة وانتصار. 
أخذ العصفور الصغير يصرخ ويصيح طلبا للاستغاثة, أخذ زملائه العصافير ينظرون له من فوق الأشجار في حزن وشقفة. اقتربت الفتاة منه ومنحته  ابتسامة عريضة ثم مدت أصابعها بين أسلاك القفص لكي تداعب رأسه فابتعد عنها ثم أخذ يصيح حتى أن تفتح له القفص, استمرت في الابتسام له وواصلت مداعبة رأسه  ومنقاره, تملكه  الغضب وأخذ يعض أصابعها بغيظ كلما اقتربت منه فانتفضت مبتعدة عنه في استياء وأغلقت باب القفص,   اقترب العصفور من باب القفص وحاول أن يفتحه بمنقاره ولكن محاولاته باءت بالفشل, رفرف بجناحيه لأعلى فاصطدمت رأسه بأسلاك القفص. رفض العصفور تقبل فكرة أن يمضي بقية حياته مسجونا في هذا المكان الضيق, رفض أن يأكل الحبوب ويشرب الماء الذي وضعته له صاحبة القفص, رفض أن يستجيب لمداعباتها ويغرد من أجلها ويلعب معها, ظل ساكنا منزويا في جانب القفص رافعا رأسه نحو صفحة السماء وفي قلبه أمل كبير أن يعود لها قريبا.
مع مرور الوقت بدأ الجوع يشتد على العصفور ويؤلمه وبدأت صاحبة القفص تكثر من زيارتها له وتمد  يديها له بالطعام أن أمل أن يتخلى عن تمرده وانزوائه ويستجيب لها ويأكل, بالفعل بدأ العصفور يقترب منها ثم التقط الحبوب من كفها  وأخذ يلتهمها في نهم وتلذذ , بالتدريج تخلى العصفور عن كراهيته لصاحبة القفص وأقبل على الطعام والشراب وبعد أن كان يجلس في صمت استجاب لمداعبات صديقته الجديدة وأخذ يزقزق من أجلها ويقفز ويرقص حتى يسليها ويضحكها.
 توطدت علاقة العصفور بصاحبة القفص التي كانت تعطيه اهتماما كبيرا وتضع له الطعام والماء كل صباح وتلعب معه يوميا وتحممه وتنظف له القفص باستمرار. توقف العصفور عن التطلع إلى السماء وتخلى عن رغبته في الطيران بعد أن اعتاد على حياته  المريحة داخل القفص واقنع نفسه أن حياته الجديدة في القفص أفضل من حياته في الفضاء مع باقي العصافير, صحيح انه كان يشعر بالملل لتشابه أيامه وتكرار النغمات والحركات التي يؤديها من أجل تسلية صديقته وإضحاكها, ولكنه كان يشعر بأنه محظوظ لأنه يعيش حياة  آمنة مستقرة لا يتعب فيها من أجل الحصول على الطعام ولا يشعر بالتهديد والخوف على حياته من بنادق الصيادين.
مرت الأيام واستيقظ العصفور في الصباح في انتظار أن تحضر له 
صديقته طعام الإفطار ولكنه فوجئ بعد أن فتح عينيه بمشهد أصابه بالذهول,  وجد باب القفص مفتوح على مصراعيه, انتفض في مكانه هلعا  بينما كان الهواء الطلق يدخل قفصه ويداعب ريشه الطويل, ظل العصفور متجمدا في مكانه عاجزا عن الحركة, هل نست صديقته القفص مفتوحا بدون أن تقصد أم أنها تعمدت أن تفتح له القفص لأنه لم تعد تحبه   ؟.
 لأول مرة من مدة طويلة رفع العصفور رأسه وتطلع للسماء فوجدها زرقاء  في غاية الصفاء, رأى زملائه يطيرون  في مجموعات وأسراب فارتد إليه الحنين القديم وتذكر حياته الماضية واستولت عليه الرغبة في الطيران.
 تطلع لريشه الطويل بتردد ثم فرد جناحيه وتجاوز باب القفص ولكنه بدلا من أن يطير فوجئ بنفسه يسقط فوق جدار الشرفة التي كانت السبب في القبض عليه , رأى الطيور تنظر له من بعيد في سخرية وتضحك عليه فطأطأ رأسه وقد استولى عليه الشعور بالخزي ثم تطلع إلى جناحيه بإحباط.
 هذان الجناحان لم يعد لهما فائدة لأن صاحبهما لم يعد عصفورا, لقد طٌرد  من جنة السماء  وصار مثل الدجاجة والنعامة والبطريق طائرا بالاسم 
وحيوانا بالفعل.
  تحامل العصفور على نفسه وحمل جناحيه بصعوبة وارتد عائدا الى القفص المفتوح في انتظار أن تعود صديقته لكي تطعمه وترعاه, لم يطل انتظاره طويلا فلقد عادت صديقته إليه بلهفة وابتهجت عندما وجدته ساكنا في القفص, وضعت له الطعام بسرعة ثم أغلقت القفص بإحكام ووضعت فوقه قفل كبير. تطلع العصفور للقفل بحزن وتمنى لو امتلك القدرة على الكلام حتى يخبرها  أن وجود هذا القفل مثل عدمه.
رغم عودة صاحبة القفص لم تعد  حياة العصفور مريحة وهانئة كما كانت لأنها قللت من كمية الطعام التي  تضعها له ولم تعد  تحممه وتهتم باللعب معه  وتنظيف قفصه. استغرب العصفور من اهمال صديقته له  ثم عرف السبب عندما رآها تحمل قطة بيضاء صغيرة وتلاعبها , حاول أن يخترع نغمات ورقصات جديدة لكي يلفت انتباهها ويذكرها بالأوقات الجميلة التي جمعتهما معا ولكنها واصلت تجاهله وركزت كل اهتمامها على قطتها الجديدة.رغم شعور العصفور بالحزن والوحدة لتخلي صديقته عنه لكنه اضطر أن يرضى بالطعام القليل الذي كانت تضعه له كل فترة واضطر أن يحتمل العيش بدون استحمام وأن يحتمل رائحة قفصه الكريهة.
مرت الايام وجاء اليوم انتظر فيه  العصفور طعامه بصبر ولكنها الوقت طال ولم تأتٍ صديقه, شعر العصفور أن المنزل أهدأ من كل يوم كأنه  بلا سكان. انتابه القلق وأخذ يغرد ويصيح وينادي على صديقته ولكن لم يرد عليه أحد, شعر أن صديقته غادرت المنزل للأبد وتركته وحيدا, داهمه الغيظ , كيف ترحل فجأة وتتركه  داخل القفص بلا طعام ولا شراب,  هل تريده أن يموت ؟ . رأى الهلاك الذي ينتظره لو استمر بقاءه في القفص فاستولى عليه الهلع.
   اقترب من القفل وحاول أن يفتحه بمنقاره, بعد جهد طويل انفتح القفل وانفتح معه الباب, تطلع العصفور بخوف إلى باب القفص, تسارعت دقات قلبه وتذكر المرة السابقة التي فشل فيها في الطيران . فرد جناحيه على استحياء وحركهما ببطء وتردد بينما كان ريشه يرتجف بشدة. كان يعلم أن خروجه من القفص سيؤدي حتما إلى سقوطه ولكنه قرر أن يموت بعد صراع قصير بدلا من أن يموت بعد استسلام طويل.  
دار بجناحيه حتى تمكن من تجاوز  سور الشرفة  فقد طاقته سريعا وأخذ يترنح ثم سقط وهو يطلق ما اعتقد انها صيحاته الأخيرة  ولكن  قبل أن يلمس الأرض أحس أن هناك قوى  أكبر منه ترفعه إلى أعلى, تطلع فوقه فلم يجد أحدا, تعجب من أين جاءت له هذه القوة, شعر بالامتنان لأنه نجا من الموت وقرر أن يحاول الطيران مرة أخرى, أخذ جناحيه يرفرفان بعنف ويصارعان الهواء ويقاومان الرياح بصعوبة, أخذ يهبط ثم يعاود الارتفاع وبالتدريج بدأ  يتحرر من جاذبية الأرض وبدأ ينساب في الهواء ثم ارتفع  لأعلى حتى  استطاع أن يحلق مجددا في السماء.

0 تعليقات