هذا هو أول مقال أكتبه بعد انقطاع دام لمدة شهر عن الكتابة, إنني عادة لا أحب الكتابة عن نفسي لأني أعتز بخصوصيتي وأفضل ألا تكون حياتي وهمومي الشخصية مطروحة للعلن, ولكن لأني أعلم أن الهم الذي أعاني منه مشترك ولأني أتوقع أن قلة من الناس سيهتمون بقراءة هذا المقال, قررت أن أتحرر من خوفي وأعبر عن ما أشعر به. إنها محاولة يائسة مني لمحاربة عجزي عن الكتابة واستعادة صوتي الأدبي قبل أن  أفقده للأبد .
كل يوم أعد نفسي بأنني سأستأنف الكتابة من جديد ولكني لا أكتب شيئا ليس لأني أعاني من ندرة الأفكار.  كل يوم تقريبا  تخطر على ذهني فكرة قصة قصيرة أو رواية أو مقال , أدون الأفكار في مذكرتي على أمل أنني سأنفذها قريبا ولكني  أخترع شتى الحجج والأعذار حتى لا أكتب ما فكرت فيه, كنت أوهم نفسي أن الكسل هو السبب ولكني اكتشفت السبب الحقيقي عندما فكرت في تجارب النشر المريرة التي خضتها والتي تكفي لإفساد شهية أعظم كاتب, ثم وجدت نفسي أتصفح  أرشيف مقالاتي وقصصي  المنشورة في المدونة, شعرت بالإحباط والحسرة لأن قليلا  من الناس يهتمون بقراءة النصوص  التي أمضيت وقتا طويلا في كتابتها وتنقيحها وتعديلها لكي تكون جديرة بالقراءة , أنا لا أدعي أن كل ما أكتبه عظيم, بعض كتاباتي جيدة  وبعضها أقل من العادي كما أنني أعلم أن القراء وخصوصا متابعي المدونات قليل جدا في هذا العصر.
ما لفت انتباهي أن هناك حفنة من القصص و المقالات لي جذبت عددا كبيرا من الزوار ليس بسبب مضمونها المهم ولكن بسبب عنوانها.
  القصص القصيرة  الأكثر جذبا للزوار في مدونتي تحمل هي قصة بعنوان " خلوة محرمة , " شقة مفروشة " " صدفة .ومقال  بعنوان " لماذا يفضل الرجال الزواج من فتيات صغيرات ".
 هذه النصوص لا تحمل مضموما إباحيا على الإطلاق,  لكن اسمها وحده يكفي لإثارة القراء الذين يبحثون عن  كلمة " حرام " وعلاقات محرمة " و "قصص محرمة"  و "النكاح في الشقق المفروشة".
 مقولة   " الجمهور عايز كده "   ليست مجرد حجة يسوقها المنتجون والناشرون لتبرير إصدارهم للإعمال الرديئة . الواقع والإحصائيات يؤكدان أن الجمهور عايز كده  بكل ما يمكن أن توحي به كلمة " كده " من معاني حتى لو أدعى  المتشدقون بالفضيلة عكس ذلك  , الجمهور يعشق الهلس والإباحية  والتفاهة  والدليل على ذلك أن المواقع أكثر شهرة ورواجا في العالم كله هي  المواقع الإباحية بينما لا تحظي المواقع الجادة إلا بمتابعة قلة قليلة من الجماهير.
الجمهور يريد كل ما يثير شهوته ويداعب غرائزه ويتفاعل مع خيالاته الجنسية لأن كل ممنوع ومحرم هو بالضرورة مرغوب ومطلوب وجاذب " للترافيك ", ولكن هناك فرق بين ما يريده الجمهور وما يحتاجه, التجار والمنتجون والناشرون يتعاملون مع الجمهور باعتبارهم عملاء فيقدمون لهم كل يريدونه ويشتهونه حتى لو كان يحتوي على سم قاتل طالما أنهم سيحققون من ورائهم أرباح كبيرة,  لكن الفنانين والمثقفين وظيفتهم تقديم للجمهور ما يحتاجونه , ما يثري حياتهم , ما يرفع عنهم غشاوة الجهل والتعصب والكراهية, ما يطورهم ويدفعهم للتفكير والتغير للأفضل. الفنانون وظيفتهم تقديم المتع العقلية والروحية للجمهور وليس متع الغريزة الزائلة .
من منطلق إيماني بهذا الدور قررت أن أكتب ولا أهتم بعدد من سيقرؤون لي بل اهتم بعدد من أؤثر فيهم , قررت أن أكتب لأن لدي ما أقوله ولأني استمتع بالكتابة. أشعر أنني حرة وأنا أكتب. اشعر بنشوة فكرية عارمة وأنا أضع سطوري فوق الورق أو على الكمبيوتر في برنامج الورد. أشعر أنني نابضة بالحياة  وأنا أعبر ما يجول في خاطري بالكلمات. أشعر بالتحدي وأنا أفتش في عقلي عن كلمات وصور جمالية لوصف المشاعر والأفكار والأحداث بدقة.  كانت الكتابة في حد ذاتها تسبب لي متعة فريدة, ولكن الأمر تغير منذ أن  بدأت أنشر لكتاباتي وأروج لها وأطلب من أصدقائي الافتراضيين والحقيقيين قراءتها, بدأت  انتظر تفاعل الناس مع أفكاري وأنظر لسجل الزوار في مدونتي لأعرف كم شخصا قرأ ما أكتبه.
 أشعر بالسعادة عندما يهنئني أحد القراء ويخبرني أنه أستفاد كثيرا من مقالي,  وأشعر بالإحباط والحسرة عندما لا أجد أي تفاعل مع ما  أنشره. أحيانا أعيد قراءة ما كتبته وأبدأ أشكك في جودة النص  أو أهمية الموضوع الذي طرحته, أبدأ أشك في نفسي , في كوني أستحق أن أكون كاتبة , في كون رأيي مهم أو أصيل أو يستحق المناقشة, لابد أن كتاباتي عادية بل هي رديئة لذلك لا يلتفت إليها أحد أو ربما أني لا أعرف كيف أصل للقراء وأقدم لهم ما يهمهم.
 قارنت كتاباتي بما يكتبه المشاهير, اكتشفت أنني لو أردت أن أجذب القراء  لابد أن أترك التدوين والمقالات الجادة أو القصص القصيرة واتجه للفيسبوك وأكتب  ستيتس لطيف  باللهجة العامية وأملأه بالعبارات المبتذلة, ومن الأفضل أن تكون كتاباتي مضحكة وساخرة أو أتجه للرومانسية المفرطة  وأتحدث عن الحب وأعراضه ومشاكله.
أدركت أني لن أستطيع  تغيير نوعية  كتاباتي وأنني لن أستطيع أن أحول ما أكتبه إلى ستيس يقرأ ليوم  واحد ثم يُنسى في اليوم التالي.  في النهاية أدركت السبب الحقيقي لشعوري بالإحباط وعجزي عن الاستمرار في الكتابة, لقد صرت أسيرة للقراء, أسيرة لاهتمامهم وتفاعلهم وموافقتهم  على ما اكتبه, صرت أقيم ما أكتبه قياسا على آرائهم فإن أشادوا بي أرى نفسي  كاتبة عظيمة وإن تجاهلوني أرى نفسي  كاتبة فاشلة, ولكن الواقع يؤكد أن اهتمام الجماهير أو عزوفهم ليس مقياسا لتقييم أي عمل لأن الجماهير لا تفكر ولا تعقل ولا تبحث عن ما هو مفيد بل تبحث عن كل ما هو ما مثير ورائج وجذاب ومسلي.
هناك صوت مزعج يقول لي " إنك تبررين فشلك بهذا الكلام رغم أنك تعلمين أن الإقبال الجماهيري هو أهم شيء بالنسبة لأي كاتب" , لكني أحاول أن أحاربه وأقول له, ربما أنا بالفعل فاشلة , ربما أنا كاتبة عادية , ربما إنني لا أحب استعراض ثقافتي اللغوية واستخدام الألفاظ الفخمة والإكثار من المحسنات البديعية, ربما  أنا  أميل للأسلوب الهادئ البسيط في الكتابة وأكره   الصدمة وإثارة الجدل والهجوم على الآخر والتشنيع , ربما إني لا أحب أن أكتب في موضوع فقط لأنه رائج ولكن لأنني أراه مهما, ربما أنا لا  أحب السير في القطيع ومجاراة الموضة ولا أحب أن أستجدي الناس أو ألح عليهم حتى يقرأوا لي,  لا أحب الشللية ولا أستطيع أن أتواجد يوميا في الأمسيات الأدبية وحفلات التوقيع ولست قادرة على بناء علاقات اجتماعية في الوسط الأدبي والتزلف لمشاهير الكتاب حتى يساعدوني في نشر أعمالي والترويج لها ,  ولكل هذه الأسباب أنا لست ناجحة وعلى الأرجح سأعيش وأموت مثل ألاف الكتاب العرب المغمورين . ولكن هل هذا يعني أن علي أن أوفر وقتي ومجهودي وأتوقف عن الكتابة تماما ؟.  الإجابة هي لا ,  لا  يجب علي أن أتوقف لأن لا أحد  يقرأ لي فقط, لابد أن أتحرر من رغبتي في الحصول على الإعجاب والتصفيق, ثقتي بنفسي وبما أكتبه لابد أن تأتي من داخلي وليس من  خارجي.
أنا لم أشرع في الكتابة من أجل نيل رضا الناس وانتزاع التصفيق منهم , ولكن لأني أحب الكتابة واحب العملية الإبداعية . إذا كان  نبع الإبداع نضب داخلي أو إذا كانت الكتابة فقدت متعتها ومعناها بالنسبة لي فيجب علي التوقف فورا. عدم إقبال القراء يمكن أن يكون محبطا ولكنه يمكن أن يكون مريحا لأنه يحرر الكتاب من  عناء السعي وراء الاستحواذ على اهتمام القراء ويتيح له الفرصة ليكتب ما يهمه بدون التفكير في أحد آخر باعتبار أن القراء لن يهتموا بما يكتبه في جميع الأحوال.
بينما أنا أكتب أدركت أن الكتابة لم تفقد متعتها بعد بالنسبة لي رغم كل شيء 
لقد مرت علي ساعتين وأنا أكتب هذا المقال بدون أن أشعر بالملل أو الرغبة في النهوض من المقعد وفعل شيء آخر. هذا يؤكد أنني يجب أن أتجاهل القراء وأتجاهل الأصوات المزعجة التي تشككني في نفسي وأتجاهل العالم القبيح الذي يخنقني ويكثم على أنفاسي ويمنعني من التعبير عن نفسي , وأتجاهل يأسي الذي يزيد يوما بعد يوم وأنهض.
لابد أن أنهض وأقاوم وأستمر بأي طريقة حتى لا أموت وأنا على قيد الحياة .

مقالات مشابهة:



4 تعليقات

  1. مقالك او خاطرتك تلك تدور في ذهن ااكثيرين يا استاذه ياسمين , لقد بثثت شكواك الى الورق وقد اجابك الورق , لا خيار سوى الاستمرار والتجويد , فلتكتبي بجهد وبكل الجهد , فالكتابه بناء يبدأ من حي ث لا يراه الناس,
    أشاركك شعورك في هذا المقال , واشجع نفسي كذلك على الخط والتدوين
    حلمي جلال

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا على التشجيع استاذ حلمي واهلا بك في المدونة

      حذف
  2. حقا انا لا اجد الكلمات التي اعبر بها عن اعجابي رغم انني اكتبها الان ..امر مضحك ..جل ما يمكنني قوله هو وصف شعوري اثناء وبعد قراءني للمقال لقد اعترانيي شعور حماسي وكانني في الدقائق الاخيرة من مبارات كرة القدم لا اعرف ان كان التعبير صحيحا لكن بختصار لن اموت وانا على قيد الحياة
    واخيرا اتاسف عن اي زلت لغوية تشوب هذه الكلمات
    من يوسف :)

    ردحذف
    الردود
    1. لا تتأسف شكرا لك وسعيدة ان كلماتي أثرت فيك وسعيدة بمرورك على المدونة

      حذف

رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته