يوسف ادريس 

يحلو للكثيرين النظر  إلى التحرش باعتباره ظاهرة حديثة العهد اقتحمت المجتمع المصري "
 المتدين بطبعه ", والتغني بالماضي الجميل  عندما كانت  السيدات يمشين في الشارع بالمكيروجيب  بدون أن يقترب منهن أحدا لأن جميع الرجال في ذلك الزمن كانوا يتحلون بالأخلاق ويتبعون السلوك القويم. كدت أصدق هذا الكلام, ولكني ادركت أن الماضي  الجميل لم يكن جميلا  وأن  أصل كل آفاتنا الاجتماعية يعود إلى هذا الماضي بعد أن  قرأت  تلك القصة القصيرة   للأديب  العظيم وأمير القصة العربية الدكتور يوسف إدريس.
 القصة تحمل عنوان " سنوبزم " ولقد كتبها يوسف إدريس عام 1970 ونشرها ضمن مجموعته القصصية الرائعة " بيت من لحم ".
يتميز يوسف إدريس  بقدرة عبقرية على تشريح 
المجتمع المصري والغوص في خفايا النفس البشرية لتفسير سلوكيات الناس والبحث عن دوافعهم وهذا ما يتجلى في تلك القصة الكاشفة عن أمراض المجتمع المصري ورد فعله على الظلم والقهر  الذي تتعرض له المرأة .
 القصة تحكي عن استاذ جامعي  فاضل يدعي أنه مصلح اجتماعي  ويشغله تطبيق اللوائح واجبار زملائه على الالتزام بها , يستقل هذا الاستاذ أتوبيس عام , يقف بجوار سيدة مطحونة لا تعرف الابتسامة طريقا إلى شفتيها, يجبره الزحام على الالتصاق بها , يراها تتململ وتحتج , يعتقد أنها منزعجة منه ولكن يتضح أنها منزعجة من الرجل الذي يقف خلفها والذي يقوم  بالتحرش بها , لم يذكر يوسف ادريس لفظ تحرش مرة واحدة في القصة  ولكنه  استطاع أن يصف القهر وامتهان الكرامة الذي تتعرض له السيدة  بطريقة مؤثرة في هذا المقطع
الرجل رغم كل ما حدث استأنف المحاولات بجرأة أكثر , حتى السيدة بين الحين والآخر تجبر عنقها المكتنز على الالتواء وتصويب نظرات صاعقة هلعة مستبشعة راجية , أخيرا بدأ يطفر منها دمع متحجر صامت, نظرات كان واضحا منها انها تتعذب عذابا لم تذقه في عمرها, إذ كانت تتألم ذلك الألم القاتل الذي لا يستطيع فيه المرء أن يصرخ أو ينطق أو يقول لا. والرجل كأنه فقد الانسانية والحيوانية معا لا يولي شيئا من هذا كله أي اعتبار , مندمج بكليته في متعته الدنيئة الغارق فيها لا يرى سواها ولا يهمه أي ألم تعانيه تلك السيدة لقاء لحظة المتعة تلك.
لم يتدخل الاستاذ الجامعي  لإنقاذ تلك السيدة بل وقف يشاهد ما يحدث لها ببرود شديد  , ثم فوجئ بأن جميع ركاب الاتوبيس يرون ما يراه و يختلسون النظر ويشاهدون ما يحدث للسيدة بحماس واستمتاع.
تصاعد الموقف وبدأ الرجل يرفع ثوب السيدة مما أجبرها على الاستغاثة وطلب العون.  كان رد فعل الناس هو الهجوم على السيدة واتهامها  بالكذب والتلفيق  بل أن  سيدة مثلها لامتها قائلة " ويعني الشرف حبك قوي ؟ كانت استحملت وبلاش الفضائح "

عبر  يوسف ادريس عن ذهوله  من رد فعل الناس على استغاثة السيدة واعتراضها على ما يحدث لها في هذا المقطع
" المذهل المحير ليس أن تستغيث فلا تجد المغيث , السؤال الملح هو هذه الرغبة التي لابد أنها نبتت بتلقائية , وفي كل نفس على حدة لإثبات كذب المرأة ونفي الموضوع كله وكأنه لم يكن, بل والأكثر عقابها الجماعي على تلك الصورة لأنها فتحت الفم ونطقت, وبلغت بها الجرأة أن استغاثت وحددت الفاعل ".
 يستغرب الأستاذ الجامعي مما يحدث ويسألهم عن سبب انزعاجهم من تصرف السيدة وفي اتهامها للرجل  ويثبت أن ما حدث لها صحيحا يتشاجر معه الناس ,  ويصرون على نفي ما وقع للسيدة ويتهمونه بأنه نصاب   وينهالون عليه ضربا  ثم يطردونه في الاتوبيس  حتى يجد نفسه مرميا  على الرصيف ونظارته مكسورة .
يبتلع  الاستاذ الجامعي الاهانة الموجهة له ويدرك أنه أخطأ عندما تكلم, فيفعل مثل الناس ويقرر أن يتوقف عن الرؤية والكلام  ويشغل نفسه بتطبيق اللائحة , وفي نهاية القصة  نكتشف القاعدة التي يتبعها المصريون في التعامل مع أي ظلم أو  قهر تقع عليه أعينهم  من خلال هذه العبارة   
" اللعبة بتتم في صمت ولا أحد يخرج عن قواعدها , والقاعدة أنك ماتشوفش , وإذا شفت كأنك مشوفتش , وإذا حصل لغيرك ملكش دعوة وحتى إذا حصل لك أنت ولا كأنه حصل لك ,  حل عبقري مش كده ؟"
لا شك أن ركاب الاتوبيس بما فيهم استاذ الجامعة  هم  تمثيل للمواطن المصري الذي يدعي دائما انه " متدين "  و" صاحب أخلاق "  " ومؤمن  بالله  " , والذي  يصدع رؤوسنا  بالحديث عن الحلال والحرام والصواب والخطأ ويشغل نفسه بالشكليات  والمظاهر ,  وينصب نفسه حاكما على أخلاق الناس وسلوكياتهم , ولكنه في الواقع  لا يطبق ما يؤمن به , انه مواطن  جبان  مقهور أصابه الاحتلال والحكم الاستبدادي الظالم  بأمراض وعقد نفسية عديدة جعلته يحاول الحفاظ على  بقائه في الحياة  بالتعامل مع الظلم   بمبدأ  " لا أسمع , لا أرى . لا أتكلم  " ,  انه مصاب  بمتلازمة ستوكهلوم وهي حالة نفسية يصاب بها الفرد تجعله يتعاطف مع من أساء إليه وعذبه بل ويلوم نفسه على ما وقع له, ثم يعيد انتاج الظلم  الذي وقع له ويمارسه على من هو أضعف منه ويتلذذ عندما يقهر غيره, ومن تسول له نفسه الاعتراض على الظلم  يتحالف المجتمع ضده ويعاقبه عقابا رادعا, يفضحه  ويدمر حياته ويجبره على أن  يلوذ بالصمت ويستمر تحمل الظلم مثل الآخرين  بدون اعتراض .
لقد وضعنا يوسف ادريس بقصته  " سنوبزم "  في المرآة أمام أنفسنا وجعلنا نرى حقيقتنا كمجتمع , إننا نتحدث عن التحرش باعتباره ظاهرة فردية  دخيلة على مجتمعنا " المتدين " وهو في الحقيقة مرض  نعاني منه من زمن بعيد  ولكن نرفض الاعتراف به حتى لا ندين أنفسنا,  دائما ندعي أننا نريد التخلص من التحرش وحماية زوجاتنا وبناتنا منه,  ونحن في الحقيقة نشارك  في حدوث تلك الجريمة  وكل الجرائم الاجتماعية الأخرى بل ونكرسها ونساهم  في استمرارها سواء بالصمت أو بالتبرير او بلوم الضحية ونصحها بأن تصمت عندما تتعرض للتحرش .
آن الأوان أن نعترف أننا لسنا متدينين فالتدين الذي نتمسك به  ما هو إلا قناع  نخفي ورائه قبحنا وانحطاطنا الأخلاقي، إننا جمعيا شياطين خرس.


2 تعليقات

  1. شكرا لك على مقالك الذي أشار إلى ملاحظه قدم العاده السيئه في المجتمع , اما ( متدين بطبعه ) تلك فهي كلمه أطلقها أحدهم في برنامج تليفزيوني أو اذاعي ولاقت صدى في اسماع سامعيها , وهذا يتكرر كثيرا في مصر , حيث بندفع الناس نحو كلمه رنانه او دعوه جذابه , دون التحقق والتفكر في حيثياتها .
    اين التدين ؟ وما علاماته وما اماراته ؟ ولماذا المصري متدين بطبعه دون غيره من الشعوب . تحيه لك وليوسف ادريس
    حلمي جلال الدين

    ردحذف
  2. اتفق معك تماما شكرا جزيلا على اهتمامك بقراءة المقال

    ردحذف

رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته