التليفزيون 
التليفزيون ليس الحقيقة, التليفزيون منتزه ترفيهي, التليفزيون سيرك, مهرجان, فرقة جوالة
 من البهلوانات, رواة قصة وراقصين, مغنيين, مشغوذين وأصحاب نزوات ومدربي أسود ولاعبي كرة قدم.
 إذا أردتم الحقيقة توجهوا للرب , توجهوا لمعلميكم, توجهوا لأنفسكم لأنه المكان الوحيد الذي ستعثرون فيه على أي حقيقة فعلية, ولكن لن تحصلوا على أي حقيقة منا, سنخبركم بأي شيء تريدون سماعه,, سنكذب عليكم, إننا نتعامل مع الأوهام , لكن أنتم يا أناس تجلسون هنا يوما بعد يوم , ليلة بعد ليلة , نحن كل ما تعرفوه, بدأتم تصدقون الأوهام التي نقدمها, بدأتم تصدقون أن التليفزيون هو الحقيقة وأن حياتكم هي الخيال, تفعلون كل ما يقوله التليفزيون لكم , تلبسون مثل التليفزيون, تأكلون مثل التليفزيون, تربوا أطفالكم مثل التليفزيون , تفكرون مثل التليفزيون, هذا جنون, أنتم الشيء الحقيقي, اغلقوا التليفزيون الآن.
هذا ليس كلامي ولكنه كلام هوارد بيل,  الشخصية التي قام بها الفنان بيتر فنيش في الفيلم الامريكي الشهير الشبكة أو
Network
الفيلم تم انتاجه عام   1976 ,وقد  حاز على عدة جوائز للأوسكار كما انه يعد من أفضل الأفلام في تاريخ السينما العالمية , انه  من الأفلام القليلة جدا التي تحدثت عن خبايا صناعة التليفزيون  في أمريكا  بشكل ساخر شديد الذكاء والصدق.
الفيلم يحكي عن مذيع إخبار شهير تم تسريحه من عمله بعد أن قل نسبة مشاهدة برنامجه مما جعله يصاب بالانهيار العصبي ,  وأخذ يهذي ويزعق على الهواء بكلام غريب , المفاجأة أن هذيانه هذا جذب إليه الجمهور ورفع  نسبة مشاهدة برنامجه مما جعل ادارة القناة تعيده إلى عمله وتعطيه برنامجا ليعلن فيه عن ثورته وغضبه  على كل شيء في الحياة ويتحدث عن كل شيء بشكل صريح وحاد .

لمن لا يعلم فإن قنوات التليفزيون في أمريكا قنوات تجارية تهدف بالأساس إلى الربح, مصدر دخلها الرئيسي هو الإعلانات, وبالتالي فإن  هدفها الأساسي هو جذب أكبر عدد من المشاهدين من أجل الحصول على المعلنين, أصحاب القنوات التليفزيونية مستعدون لفعل أي شيء وكل شيء من أجل الحصول على أعلى نسبة مشاهدة,  وهذا ما يجعلهم يلجؤون لبث على أخبار الفضائح والإثارة الرخيصة  وعلى البرامج الترفيهية  المبتذلة  التي تخدر العقول وتسلي الناس  أكثر من تركيزهم على تثقيف و توعية المشاهدين.
   التليفزيون في عالمنا العربي دوره يختلف قليلا  عن   التليفزيون في أمريكا , انه ليس مجرد وسيلة للترفيه فقط,  ولكنه  الأداة الأساسية التي  تستخدمها السلطة الحاكمة من أجل التحكم في عقول المواطنين  وبث الدعاية والأكاذيب  التي تخدم النظام وتحافظ على بقائه لأطول فترة ممكنة, حتى أصحاب القنوات الخاصة التجارية يستخدمون قنواتهم كأداة للتحالف مع النظام وخدمته.
هذا الكلام ربما ينطبق على الصحف والإذاعات ولكن بنسبة أقل لأن جمهور هاتين الوسيلتين أقل كثيرا من جمهور التليفزيون.
التليفزيون هو اخطر جهاز تم اختراعه  في القرن العشرين لأنه أكثر وسائل الاعلام تأثيرا على الناس, لقد ساهم التليفزيون في تربيتنا وتشكيل عقولنا ورؤيتنا للحياة.
 إننا  نقضي نصف حياتنا على الأقل  ملتصقين بشاشته, فاغرين أفواهنا, واقعين تحت تأثيره , نتلقى كل ما يقدمه لنا ونصدقه بدون تفكير, التليفزيون  يستغل كسلنا العقلي ليقدم لنا المعلومات بسهولة بالمعلقة.
المشكلة أن المعلومات التي يقدمها لنا مختزلة مخلوطة بكثير من الأكاذيب والخرافات والأوهام , انه يقدم لنا المعلومة السهلة البسيطة الطريفة التي يمكن استيعابها وهضمها بسهولة  , انه يختزل الحقيقة ويركز دائما على  المعلومات الأكثر إثارة وتشويقا وغرابة وجذبا للانتباه , لا عجب أن المفكرين والعلماء والفلاسفة والأدباء  ليسوا نجوما في التليفزيون, نجوم التليفزيون هم المهرجين والحواة والسحرة والمشعوذين, كل من يجيدون الاستعراض والاضحاك وإثارة الجدل هم فقط من يصلحون للظهور على شاشة التليفزيون.
 التليفزيون قادر على  تحويل كل شيء مهما كانت قيمته أو اهميته  إلى مادة مبتذلة  للترفيه والتشويق حتى حياة الناس ومعاناتهم 
وآلامهم.

 أخبار الكوارث وحوادث القتل والإرهاب  يتعامل التليفزيون  معها  ببرود شديد لأنها ليست أكثر من مادة هدفها  جذب الجمهور,  لا تتعجب إن كنت لا تشعر بالحزن أو الألم عندما تشاهد أخبار الحوادث والكوارث الكبرى, لقد خدر التليفزيون مشاعرك وجعلك البشر بالنسبة لك إلى أرقام  تسمعها في نشرة الأخبار وأنت تتناول طعام العشاء, لقد وضع التليفزيون البشر في قوالب ضيقة وكليشيهات ظالمة و جعلنا نرى شعوب العالم  بصورة نمطية وسطحية.
 لقد شوه التليفزيون رؤيتنا للعالم ولأنفسنا ولمعنى الحياة, فجعل الجمال هو أن تكوني  فتاة رشيقة نحيفة شقراء, والحب هو أن تجدي فارس الأحلام  الوسيم الذي يخطفك على حصانه الأبيض, والسعادة هي أن تملك سيارة فاخرة وفيلا على البحر, والنجاح هو أن تكون من أصحاب الملايين.

لقد حرمنا أنفسنا من متعة الاستكشاف والتفكير والبحث وسلمنا عقولنا لهذا الجهاز حتى تحولنا إلى كائنات غبية بلهاء كسولة مثل القطيع وتتصرف وتفكر وترى العالم من خلال ما يقدمه لها  التليفزيون.
المصيبة أننا لا ندرك تأثير التليفزيون علينا  لأن الأوهام  التي قدمها لنا رسخت في عقولنا وصارت تتحكم في تفكيرنا بشكل غير واعي. 
 يدعي  البعض أن تأثير التليفزيون قل كثيرا عن السابق بعد اختراع الانترنت الذي صار المصدر الأساسي بالنسبة للشباب من أجل الترفيه والحصول على المعلومات,  ولكني اعتقد أن الانترنت لا يختلف كثيرا عن التليفزيون, انه فقط وسيلة أسرع وأسهل لمشاهدة نفس المحتوى الذي يقدمه لنا التليفزيون, فبدلا من أن نشاهد فيلما أو برنامجا على الشاشة في موعد محدد أصبح أمامك الفرصة لمشاهدة ما تريده في أي وقت , كما أصبح أمامك كم أكبر من الاختيارات وهذا ما أتاح  فرصة لظهور اعلام بديل ربما يكون مختلفا قليلا  عن الاعلام التقليدي , لكن كل مواقع وقنوات الانترنت تسعى مثل قنوات التليفزيون إلى الربح التجاري من خلال الحصول على أكبر عدد من المشاهدات, ولذلك فإن أصحابها لن يتورعوا عن بث العناوين المثيرة والمواد الترفيهية الرخيصة  والشائعات الكاذبة حتى يجذبوا الزوار.
أعلم أنك لن تتوقف  مشاهدة التليفزيون او متابعة وسائل الاعلام بشكل عام  لأن هذا مستحيل , وسائل الاعلام هي جزء لا يتجزأ من حياتنا ولكنها لا يجب أن تكون المصدر الأساسي للمعلومات ولا يجب أن نستقبل ما تقدمه لنا على انه الحقيقة , يجب  أن نمرر كل ما نسمعه ونراه  على عقولنا ونقوم بفلترته ونقده قبل أن نقبله أو نرفضه, يجب أن نتحرر من عبوديتنا للتليفزيون ولكل وسائل الاعلام, يجب أن نطرح الكسل عن عقولنا  ونحصل على الحقيقة من خلال الخبرة المباشرة التي تجعلنا  نرى الحياة بثرائها وجمالها وتعقيداتها, يجب أن نبحث عن المعلومة بأنفسنا عن طريق المصدر الأفضل للمعلومات, الكتب.
متعة البحث في الكتب  لا تضاهيها أي متعة أخرى, وعملية البحث والقراءة  صارت أسهل مع توافر آلاف الكتب والمراجع الالكترونية مجانا على الانترنت.
هل الكتب يمكن أن تحتوي على أكاذيب ؟ بالطبع, ولكن الفرق بين الكتب وبين التليفزيون  هي أن الكتب تتيح لك الفرصة لتشغيل عقلك من أجل التفكير في المعلومة وفحصها  وتحليلها ونقد الآراء التي تقرأها ومقارناتها بآراء أخرى. انما التليفزيون يحشو عقلك بكم كبير من المعلومات ويجبرك على التعامل معها على انها الحقيقة, إذا أردت أن تعرف الحقيقة ابعد بصرك عن الشاشة وابذل قليلا من المجهود حتى تعثر على الحقيقة بنفسك.

2 تعليقات

  1. علي فكرة التلفزيون في الخارج أيضًا يستخدم للتحكم في الخيارات السياسية للبشر ومصائرهم ومقدراتهم السياسية وإن لم يكن بالصورة الفجة التي نراها في عالمنا العربي، فالحاكم المراد غسل العقول لصالحه هناك ليس حاكما فردا يمسك بالذهب في يد والسيف في الأخري، ولكنه كيان كامل يسير إلي الأمام وفي اتجاه واحد مهما اختلف اسم أو جنس أو لون بشرة الجالس في البيت الأبيض.

    ردحذف
    الردود
    1. هذه حقيقة وهذا ما اظهره الفيلم في النهاية

      حذف

رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته