هل تتمنى أن تعيش حياة خالية من الألم والوجع
؟على الأرجح ستكون إجابتك بنعم
كيف تتخيل الحياة بدون ألم ؟
على الأرجح ستتخيل أن تلك  الحياة ستكون أشبه بالجنة مثالية ورائعة وهادئة.
 لقد كنت اعتقد  أن  الحياة بدون ألم أفضل وأجمل  كثيرا إلى أن شاهدت قصة هذه الفتاة الأمريكية  من عدة سنوات  في إحدى البرامج الوثائقية.
إنها طفلة صغيرة جميلة تزين وجهها ابتسامة عريضة ترتدي نظارات طبية باللون الزهري, تتحرك في أركان غرفتها وتلعب وتقفز بحماس ونشاط منقطع النظير, عندما تصطدم بأي شيء أو أي جسم صلب وتقع لا تتأوه أو تصرخ بل تطل مبتسمة وغير عابئة بما يحدث بينما  تسيل الدماء من جسدها, كل من حولها يصفونها بأنها لا تعرف الخوف, لأنها تجرؤ على فعل كل شيء وأي شيء بدون أن تشعر بالألم.

إنها تعاني من مرض نادر اسمه بالإنجليزية 
Congenital insensitivity to pain
 أو عدم الإحساس الخلقي بالألم أو اللاشعور بالألم, وهو من الحالات الطبية النادرة جدا والتي تجعل الإنسان لا يستطيع الشعور بالألم مطلقا بسبب خلل جيني يمنع نمو الخلايا العصبية التي توصل الإحساس بالألم والبرودة والسخونة إلى المخ , بسبب هذا المرض لا تستطيع تلك الطفلة أن تعيش بصورة طبيعية ,فرغم أنها سعيدة ومبتسمة طوال الوقت إلا أن جسدها مليء بالرضوض والندوب والحروق لذا فيديها وقدميها مربوطتان دائما بالشاش, عجزها عن  الشعور بالألم يجعلها غير قادرة على حماية نفسها الأخطار وبالتالي فإنها تؤذي نفسها طول الوقت  فتعض لسانها أو شفتيها أو تحرق يديها أو تصدم يديها وقدميها بأي شيء بدون أن تنتبه.
حالة هذه الفتاة التصقت بذهني بعد مرور سنوات على مشاهدتها وجعلتني أدرك  أهمية الألم , إننا دائما  نخاف من الألم ونعتقد أن الشعور به نقمة لأننا لا نعرف فائدته , الألم ليس موجودا من أجل عقابنا أو تعذيبنا, إنه في  الحقيقة بمثابة إشارة حمراء تحذيرية غرضها  تنبيهنا للأخطار المحدقة بنا, الألم موجود حتى يعطينا إشارة لوجود شيء خاطئ  داخل جسدنا حتى نعالجه أو في البيئة المحيطة بنا حتى نتبعد عنه.
الغريب أننا نتعامل مع الألم على أنه عدونا الأكبر في الحياة فنبالغ في الخوف منه ونحاول الهروب منه وتخديره بشتى الطرق, الخوف من الألم والرغبة المحمومة في الهروب منه هو  السبب الرئيسي في انتشار الادمان  بكل أنواعه , نحن نحاول الهروب من الألم   وننشد السعادة واللذة عن طريق تخدير عقولنا ومشاعرها وأجسادنا بالمخدرات.
المخدرات تعطل شعورنا بالألم لفترة مؤقتة وتمنحنا شعورا زائفا بالنشوة والسعادة, ولكن ما أن يتوقف مفعولها ونعود للواقع حتى يعود الألم ليهاجمنا بضراوة, فنعاود اللجوء إلى المخدرات وهكذا نقع في دائرة الإدمان.
عندما نلجأ إلى الهروب من الألم نتصور أننا سنتمكن من البقاء  في حالة فرح وسعادة طوال الوقت, ما لا نعرفه أن تعطيل القدرة على  الشعور بالألم يؤدي  إلى تعطيل القدرة على الشعور بالسعادة والفرح والراحة , لذلك عادة ما  تجد الإنسان الواقع تحت سطوة المخدرات متبلد المشاعر يعاني من اللامبالاة و لا يستطيع أن يفرح أو يحزن أو يشعر بأي شيء, لقد حول نفسه إلى  إنسان خاو  أشبه بالموتى لأنه حاول أن يزيل مقوم مهم من المقومات التي تجعله إنسانا. 
الألم   قطب مهم  من أقطاب الحياة, فكما أن النور لا معنى له بدون ظلام والخير لا معنى له بدون شر فإن السعادة لا معنى لها بدون ألم, فكل هذه الأشياء تستمد وجودها  من وجود أضدادها , وإلغاء أي جزء من الحياة هو إلغاء لمعنى الحياة نفسها ومعنى التجربة الإنسانية.
إحساسك بالألم يجعلك إنسانا أفضل لأنه يزيد من قدرتك على التحمل والصبر ويعطيك دروس مهمة تستطيع أن تستفيد منها حتى تصحح مسارك, الألم  يجعلك إنسانا حقيقيا متعاطفا قادرا على الإحساس بمعاناة البشر وتفهمها, يجعلك قادرا على الاستمتاع أكثر بكل لحظة تشعر فيها بالسعادة والصحة والراحة, يجعلك قادرا على تقدير تلك اللحظات الثمينة.
مقالي ليس موجهها للمرضي الذين يعانون من آلام مزمنة, ويضطرون للعيش على الادوية والمسكنات طول الوقت, انه موجه للناس الذين يشعرون بخوف مبالغ فيه من الألم, و يحاولون الهروب منه بكل الطرق  , هروبهم يضعهم في  خطر أكبر لأنهم يرفضون استقبال الرسائل الهامة التي يبعثها لهم الألم  مما  يزيد من عذابهم ويضيف إلى شعورهم بالألم الجسدي ألآم نفسية لا حصر لها, إنهم يعيشون في خوف دائم من خوض أي تجربة جديدة  أو القيام بأي مغامرة حتى يتفادون  الألم المترتب عليها, إنهم يعيشون في حالة شلل و يحرمون أنفسهم من كل متع الحياة من أجل تفادي الألم .
هل معنى ذلك أننا يجب أن نرحب  بالألم ونتعايش معه كما هو بدون أن نحاول إزالته  ؟
ليس دائما , فكما قلت سابقا أحيانا يأتي الألم لإعطائنا رسالة بوجود علة  في جسدنا أو  وجود مشكلة في  حياتنا تحتاج إلى معالجة وإصلاح , ولذا لابد  أن نستقبل تلك الرسالة بجدية ونستخدمها لمعرفة مكمن الخطأ  من أجل تصحيحه ومعالجته.
 في أحيان أخرى  يكون الألم إحساس عابر نمر به كجزء من العلاج من المرض أو نتيجة خطأ وقعنا فيه أو لسبب خارج عن إرادتنا , في كل الأحوال لابد أن نتقبل الألم , لابد أن نشعر به بكل حواسنا , ثم ندعه يمر بعد أن نتعلم منه حتى نكون بشرا  أفضل.




0 تعليقات