استطعت بسهولة  إقناع  أمي بضرورة خروجي ليلا بحجة أنني أريد زيارة  صديقتي المريضة. انطلقت من المنزل مسرعة وأشرت لأول تاكسي  مر أمامي  ولحسن حظي وافق السائق  على إيصالي إلى أحد المطاعم  بوسط المدينة  .
غمرني الحماس عندما أدركت أن  أمامي دقائق معدودة وأقابل لأول مرة الإنسان الذي أنقذني  من الانغماس في الكآبة والفراغ والوحدة. عندما اعتقدت أن العالم   خلا من إنسان يمكنه فهم مشاعري كان هو الوحيد الذي استمع لصوت ألامي وأعطاني الاهتمام والتعاطف الذي ظننت أنني  لن أحصل عليه أبدا .
يا لها  مصادفة عجيبة  تلك التي جعلتنا ندخل في نفس اللحظة إلى إحدى مواقع التواصل الاجتماعي   ونتبادل أطراف الحديث بشكل عفوي  . كان حديثنا سطحيا تافها هدفه التسلية وإضاعة الوقت, ولكني  قبل أن أقم بإنهاء المحادثة فوجئت به يكتب لي  عنوانه الإلكتروني حتى أستطيع مراسلته  ثم طلب مني عنواني فأعطيته إياه رغم تخوفي وترددي .
بعد يومين فوجئت برسالة منه يتحدث فيها عن نفسه بشكل موسع  .
إنه  ثري في منتصف الثلاثينات ومطلق  ولقد دفعته رغبته الملحة في محاربة الوحدة  إلى الحديث مع أشخاص غرباء لأنه لم يجد صديقا مخلصا مستعدا لتحمل  عبأ الاستماع لهمومه .
 بدون وعي رددت   على رسالته برسالة أظهرت فيها تعاطفي العميق معه لأني أتجرع الوحدة مثله  وأعلم مرارتها وطلبت منه أن يعتبرني صديقته .
 ولكن  بعد أن فكرت في رسالتي شعرت بالندم لتسرعي في عرض صداقتي على شخص مجهول لمجرد أنني  أشفقت عليه  ,ثم  أقنعت نفسي أنني أستطيع قطع خيوط صداقتي معه بسهولة إذا وجدت في رسائله ما يضايقني .
بدأ يملأ  بريدي الإلكتروني برسائله شبه اليومية التي أدخلني من خلالها إلى حياته المملة كما يصفها . 
أخبرني أنه عاش معظم حياته في فراغ عاطفي حتى وقع  في حب فتاة جميلة الشكل والنفس  , ولكن قبل أن يتقدم لها  بأيام قليلة   اصطدمت سيارتها  بسيارة أخرى فأسفرت عن وفاتها . و لقد تركت وفاتها في نفسه  صدمة لم يستطع أن يتجاوزها بسهولة   و  حزنا عميقا لا يمحى .
 ضغط عليه أهله لكي يتزوج  لعل الحياة الأسرية تنسيه أحزانه   فرضخ لإلحاحهم رغما عنه  .
 كان يذهب لبيوت العرائس متكاسلا  وكانت كل فتاة  يراها تبدو أمامه ناقصة بالمقارنة بحبيبته  الراحلة حتى ذهب لمنزل فتاة تحمس أهله لها ورأوا أنها مثالية  .
وجدها جميلة و لطيفة ومؤدبة ولكنه لم يتمكن  من إجبار مشاعره على أن تتحرك ناحيتها , ومع ذلك استجاب لتوسلات أهله وتزوج منها.
كانت زوجته في البداية تظهر حبها له  وتسعي لإرضائه بكل الطرق   ولكن مع مرور الوقت بدأ تقلل من اهتمامها  به ثم صارت كثيرة الشكوى والتذمر  . وبعد أن بات   الشجار هو سيد الموقف في منزله قرر أن يطلقها قبل أن يموت من النكد .
أخبرني أن قسوة الوحدة جعلته يشعر  أنه تسرع في الطلاق فربما لو تحملها وحاول أن يغيرها بالحسنى لاستمرت حياتهما معا .
الغريب أنني  وجدت مشكلة صديقي تتطابق تماما مع مشكلتي فطباع زوجي السابق تشبه  طباع زوجته .
 كان زوجي السابق  ميسور ماديا  و من  عائلة طيبة  ,مواصفاته المثالية جعلته المرشح المفضل عند أهلي للزواج مني أما أنا  فلم أمل عاطفيا له ولكني  لم أجد فيه عيبا واضحا فتجاوبت مع حماس أهلي له .
أثناء الخطوبة كنت  أراه شخصا هادئا خجولا حلو الحديث ولكنه كان متحفظا في الكلام عن نفسه مما جعلني أرتاب منه , ولكن  أهلي أقنعوني  أن  أي رجل من الصعب أن يظهر على طبيعته قبل الزواج و أن هذا لا يعني وجود عيب فيه .
تناسيت خوفي واستجمعت شجاعتي على أمل  أن تخيب ظنوني وتتحقق أمالي, ولكن بعد الزواج اكتشفت  أن الرجل الخجول الذي تزوجته  هو في الحقيقة  إنسان عصبي سريع الانفعال كثير الشكوى والنقد  ,  فالطعام دائما ينقصه شيئا ليكون لذيذا وثيابي إما زاهية أو باهتة , وأرائي دائما سطحية  واهتمامي  به  ليس كافيا  . الأدهى من ذلك أنه كان يعبر عن رأيه بأسلوب قاس حاد حتى يشعرني أني أسوأ زوجة في العالم   .
كنت في البداية أفترض أن كلامه صحيح ولكني اكتشفت بعد فترة طويلة بعد فشلي في إسعاده  أن إرضائه هدف من المحال تحقيقه , وأن سبب شكوته الدائمة مني هو أنه لا يحبني ولذلك يراني كتلة من الأخطاء تمشي على الأرض رغم أنه  أبعد ما يكون عن الكمال .
قررت أن أذيقه من نفس الكأس الذي يسقيني منه ولكنه لم يحتمل أن أنبهه لأخطائه فاتهمني بأن الشجار هو هوايتي المفضلة  . أنهكت صراعاتنا اليومية أعصابنا وأهدرت طاقتنا   فحدث الانفصال .اضطررت أن  أتقبل  الماضي كما هو  ولكني قررت  أن أفكر ألف مرة قبل أن أوافق على الارتباط  مجددا  .
بعد أن تبادلت الرسائل مع صديقي المجهول لمدة ستة أشهر بدأت أشعر بنوع من الارتياح والألفة تجاهه ولمست نفس المشاعر في كتاباته فكان كل منا يحاول أن يساند الأخر ويشجعه على المضي قدما في حياته .  طلب مني  اللقاء وجها لوجه فلم  أتردد في الموافقة , وصف كل منا للأخر شكله وملابسه حتى نتعرف على بعض بسهولة.توقف التاكسي أمام المطعم  فتسارعت دقات قلبي  وامتزج داخلي  الحماس بالخوف    . دخلت المطعم وأخذت  أتفحص الجالسين بدقة فلم أجد سوى شخص واحد تنطبق عليه المواصفات  .
عندما اقتربت منه أصبت بصدمة قوية شلت عقلي لمدة غير محددة ,إنه هو   بوجهه المكتنز وجسده الضخم   ,إنه طليقي الذي جاءني  مرة أخرى في شكل صديق مجهول  .
لعنت الصدفة السيئة التي جعلتني أتحدث معه دونا عن ألاف الزوار في الموقع وكأنه قدري  الذي يأبى أن يتركني .
دهشته لم تقل في قوتها  عن دهشتي ولكنها لم تمنعه من الكلام  
- كيف لم  أستنتج من حديثك أني أعرفك ؟
- يبدو أن الإنسان يخفي أشياء كثيرة عن نفسه أمام الغرباء .  من الواضح أنك تعرف كيف تضع نفسك في صورة الضحية.
- لا تغضبي كثيرا فالصورة التي تحدثت بها عني لا تقل سوءا وهذا معناه أننا نشبه بعض أكثر مما نتصور
- أنا لا أشبهك في شيء فأنا ليس لدي حبيب ميت أقارنك به
-أعترف أن مقارنتك بها كانت خطئا , ولكنك أيضا كنت تصنعين مشكلة من لا شيء
- كنت أرد عليك بنفس أسلوبك المستهين بكل شيء أفعله من أجلك
- من الواضح أن كلانا أخطأ في حق الأخر ولكن خطئي كان أكبر ولذلك أعتذر عن أي ألم نفسي سببته لكي
-  اعتذارك مقبول ,سأنصرف
- قبل أن ترحلي أريد أن أقدم لكي عرضا  وأرجو
ألا تتسرعي بالرفض .سأكون سعيدا إذا قبلتي أن تكوني زوجتي مرة أخرى.   لا أريد أن أكون مغفلا  مرتين وأفقد امرأة  مثلك للأبد .عرضه صعقني ,لم أتمكن من إيجاد رد مناسب على كلامه   فتركته وغادرت المطعم  بينما ظل حديثه يتردد في عقلي الحائر .

2 تعليقات

  1. أكثر من رائعة
    لو أني مكانها لأعطيته فرصة أخري
    أبدعتي في التدوينة بصدق
    أحسنتى

    ردحذف
  2. شكرا لك سعيدة جدا بمرورك

    ردحذف

رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته