الساعة الآن السادسة إلا ربع مساءً, يقف سامر في مكانه المعتاد وراء ثلاجة الأيس كريم, يوزع بصره بين باب المحل وبين عقارب الساعة المعلقة على الحائط المجاور له , تتسارع أنفاسه من الترقب مع مرور الدقائق, اقترب الموعد الذي ينتظره كل يوم جمعة, السادسة إلا عشر دقائق, هل يمكن أن يحضر الآن؟ السادسة إلا خمس دقائق, هل يمكن أن يتخلف عن موعده ؟,يتعامد عقرب الدقائق  فوق الرقم السادس, وقبل أن يتحرك عقرب الثواني ينفتح باب المحل في هدوء , يبدو على سامر الابتهاج وهو يشاهد هذا الرجل العجوز البدين يغلق الباب ويتوجه نحوه بخطوات بطيئة, يرتدي  قميصا أبيض, بنطلون جينز أزرق ,بذلة باهتة بلون الكاكاو ويغطي رأسه بطاقية سوداء, بشرته البيضاء المجعدة تبدو كطريق وعر يعج  بالمنحدرات والحفر ,تتجمع خطوط الزمن حول عينيه الخضراوتين اللتين تفضيان بالحيوية  كما تتجمع الخيوط حول قرص الشمس المشع, تتجلى على وجهه ابتسامة واسعة  حنونة نقية كالبلور خالية من شوائب التكبر و التصنع, إنها ليست ابتسامة زبون يحاول أن يكون مهذبا مع البائع , إنها  ابتسامة أب يرى جميع  البشر أولاده  ويوزع عليهم عطفه بدون تمييز , تخرج الابتسامة  من قلب الرجل لتصل إلى قلب سامر مباشرة  وتدفئه وتدفعه لكي يرحب بوصوله بحماس:
- أهلا وسهلا بحضرتك  شرفتنا
 - الله يكرمك
- أيس كريم بالشيكولاتة برضه
 تفلت من الرجل ضحكة عفوية  ويهز رأسه بالإيجاب.
 يحاول سامر أن يفتح معه حوارا
- على فكرة احنا عندنا نكهات تانية هتعجبك قوي , عندنا بطعم القهوة و....
- بس أنا بحب الشيكولاتة
 يضحك  لأنه توقع إجابته,  كل شيء في هذا الرجل  متوقع ومكرر ونمطي, لقد اعتاد أن يزور المحل  من حوالي عام  كل جمعة في السادسة مساءً بالضبط , لم يغير بتاتا  موعد زيارته ولا نوع الأيس كريم الذي يطلبه  ولا ملابسه  حتى المكان الذي يجلس فيه لم يغيره, فبعد أن يدفع ثمن الأيس كريم ويأخذ الكوب من سامر يتوجه  للجلوس أمام أول الطاولة المواجهة , يخرج الزبائن من المحل ويأتي مكانهم  زبائن آخرون بينما يظل هذا الرجل باقيا في مكانه بدون حركة  لمدة نصف ساعة  في حين أن  تناول الأيس كريم لا يستغرق أكثر من عشر دقائق,  لم يعرف سامر ماذا يفعل الرجل كل هذا الوقت لأنه  كان يجلس موليا له ظهره, خمن أنه لا يأتي لتناول الأيس كريم فقط, إنه رجل وحيد ينشد  الونس والرفقة  بالجلوس  بين رواد المحل , فلو كان لديه  عائلة لاصطحبهم معه مثل باقي الزبائن , يا تُرى هل توفت زوجته أم  طلقها أم أنه لم يتزوج أصلا , هل يعيش أولاده خارج البلد أم أن  الجحود أحال قلوبهم إلى صخور ؟, كان سامر  يتمنى أن يقترب منه ويعرف قصة حياته وربما يزوره ويمنحه بعضا من الاهتمام والونس الذي يفتقده  . ولكن خجله وخوفه من عواقب تخطي الحاجز الذي يفصل بينه وبين هذا الزبون أجبره على الاحتفاظ بتساؤلاته في عقله والاقتناع بصحة تخميناته.
جاء يوم الجمعة  التالي وفوجئ سامر بالرجل يدخل المحل  في الساعة الواحدة  ظهرا  مباشرة بعد صلاة الظهر, لماذا غير موعده وجاء مبكرا ؟ , طلب  الرجل الآيس كريم بالشيكولاتة  كالمعتاد  ولكنه اختار الجلوس أمام الطاولة المواجهة لثلاجة الأيس كريم , فرح سامر بهذا التغيير الذي أعطاه الفرصة لرؤيته وملاحظته بشكل أوضح , وضع الرجل  كوب الأيس كريم أمامه ,تناول المعلقة وغرسها فوق قبة  كرة الأيس الكريم بحرص ثم سحب منها قطعة صغيرة جدا, قرب  أنفه من الملعقة ليستنشق رائحة الشيكولاتة المخلوطة بالفانيليا , وضع  لسانه فوق المعلقة وبدأ في لعق الآيس كريم ببطء وتلذذ, أغلق عينيه , تنفس بارتياح , عاود  فتح عينيه, مد بصره وراء نافذة المحل وسند رأسه على حائط الملاصق لكرسيه وارتسمت على وجهه ابتسامة منتشية  وهو يلوك الأيس كريم باستمتاع  كأنه يسبح في نهر السعادة الأبدية,  انتظر بضع ثوان قبل أن يكرر العملية نفسها ,  كان سامر مبهورا  وهو يشاهد  محاولات الرجل  لإبطاء حركة الزمن حتى يستمتع بتناول الأيس كريم لأطول مدة ممكنة ,  أخذ يضحك على نفسه وهو يفكر في الفارق  بين تفسيره لسبب مكوث الرجل في المحل طويلا  وبين الحقيقة , إن هذا الرجل ربما يكون وحيدا ولكنه من المؤكد أنه  ليس حزينا ,  فجأة انفصل الرجل عن عالمه الجميل  والتفت إلى الوراء ليرى عينا سامر مثبتتان عليه, تطلع  إليه بانزعاج متسائلا"  بتبصلي كده ليه ", استولى الحرج على سامر  فأطرق برأسه في الأرض قائلا "  لا مفيش حاجة يا فندم ",
 بدا الاضطراب على الرجل فالتهم ما تبقى من الأيس كريم بسرعة ثم غادر المحل . مرت الأيام وجاء يوم الجمعة وتعامدت الساعة فوق الرقم السادس  ولكن باب المحل لم ينفتح لأول مرة , انقبض قلب سامر واستولى عليه القلق, لا يوجد سوى احتمالين,  إما  أن الرجل غضب  منه بعد أن رآه يراقبه أو أنه أصيب بوعكة صحية منعته من القدوم , مع مرور الأسابيع تيقن أنه لن يراه مجددا , كلما  يدخل عليه زبون عجوز كان  يتذكره فيداهمه الحزن والاشتياق إلى رؤيته , خاف أن يكون غادر الحياة , أحس  بالندم لأنه لم يستطع أن يتجاوز خوفه حتى  يتعرف عليه, استعاد صورته وهو يتذوق الأيس كريم باستمتاع فوجد نفسه يبتسم , لقد كان  مقتنعا أن هذا الرجل وحيد وحزين ثم اكتشف  أنها ليست الحقيقة , إن كل ما يملكه عن هذا الرجل تصورات وافتراضات  وقصص رسمها  خياله وأختار أن يصدقها ,  ولكي يتصالح سامر مع غياب الرجل أختار أن يصدق قصة أخرى , إنه لم يمت , كل ما في الأمر أنه عثر على محل أفضل ليشتري منه الأيس كريم الذي يعشقه. 

0 تعليقات