مفيدة:
لولا الوظيفة لما عرفت مفيدة كيف كانت ستحتمل حياتها، فعملها في البنك واختلاطها بزملائها هو الشيء الوحيد الذي يخفف من وحدتها وشعورها بالفراغ والملل.
وبعد وصولها إلى سن الخمسين تيقنت أن احتمال موتها أعلى من احتمال زواجها رغم أنها في نفس مستوى جمال قريباتها المتزوجات كما أنها متعلمة، حسنة الخلق ومن عائلة ميسورة ولكن ماضيها المؤلم هو السبب في حاضرها التعيس.
   رجال كثيرون تقدموا وهي صغيرة ولكنها لم تجد بينهم من يناسبها حتى تقدم لها وهي في سن الثامنة والعشرين رجل فاضل أعجبها ووافقت عليه أسرتها.  بعد شهرين فقط من الخٌطبة انقلبت سيارة خطيبها على الطريق السريع فلقي مصرعه.
 رغم حزنها الشديد عليه لم تتشاءم من فكرة الزواج وظلت تنتظر العريس المناسب.
بعد خمس سنوات تقدم لها أرمل في الأربعين من العمر لديه طفل واحد، ورغم أنها كانت تتمنى أن تكون الزوجة الأولى في حياته إلا أنها شعرت بارتياح نفسي تجاهه فوافقت عليه.
 قبل موعد الزفاف بيوم واحد أصيب الرجل بأزمة قلبية مفاجئة أودت بحياته في الحال وبعدها أشيع عن مفيدة أنها فأل شؤم على كل من يتقدم لها.
 في البداية تألمت من هذا الكلام ولكنها تدريجيًا بدأت تقتنع بصحته في داخلها ما يقوله الآخرون بأن الشيء عندما يتكرر لا يمكن أن يكون صدفة.
صدقت كلام قريباتها أن هناك عفريت يسكن جسدها وهو الذي قتل خطيبيها لأنه يريدها لنفسه.
ذهبت لكل الشيوخ والدجالين المعروفين لإخراج العفريت المزعوم من جسدها، ولكنها لم تأخذ من ذلك إلا ضياع الوقت وخسارة المال. ولأن المرأة لا تملك أغلى من سمعتها فلقد تسببت تلك السمعة في تخويف الرجال المحترمين من التقدم لخطبتها، ولم يقترب منها إلا الحثالة الطامعين في شقتها ومرتبها فوجدت نفسها وحيدة في المنزل بعد وفاة والديها وزواج شقيقها.
  رغم  أنها  تظهر أمام الناس بمظهر الإنسانة الراضية قانعة بنصيبها في الحياة إلا إنها في قرارة نفسها تشعر أنها تعيش بلا هدف ولا معنى، فلا زوج يشاركها الحياة حتى لو تشاجر معها يوميًا ولا أطفال تربيهم وترعاهم وتورثهم ثروتها بعد الممات.
شعورها بالحسرة على نفسها يزداد عندما ترى الأزواج السعداء الذين يعيشون حولها، وبالتحديد جيرانها الذين يسكنون معها في نفس الدور، الدكتور  بهاء و زوجته داليا  وسماح و زوجها حسام   إنها تغبطهم لأنهم  يعيشون الحياة  التي طالما حملت أن تعيشها.
بهاء وداليا
عندما نظر بهاء إلى داليا وهي تجلس أمام إحدى الشواطئ في مرسى مطروح سحرته عيناها الخضراوين وبشرتها البيضاء وشعرها الكستنائي.
  وعندما أدعى عدم معرفة مكان الفندق لكي يتحدث معها لأول مرة خفق قلبه بعنف، فأحس أن شعوره نحوها ليس مجرد إعجاب سطحي وعندما تعمد الحديث معها للمرة الثانية تأكد أنها فتاة أحلامه.
كان لديه إصرار غير طبيعي على الزواج منها حتى بعد أن عرف أن والده الموظف بوزارة الزراعة يعد فقيرًا بالمقارنة بوالدها الصيدلي صاحب شركة الأدوية الكبيرة، وحتى بعد أن عرف أنها فتاة مدللة متخرجة في الجامعة الأمريكية ومصروفها اليومي أكبر من مرتبه الشهري.
 إعجاب داليا ببهاء وحديثه عن المستقبل الباهر الذي ينتظره كطبيب أسنان شفع له عند والديها فقبلاه زوجًا لها على مضض.
كانت داليا تتعمد تذكير بهاء بالشرف الذي حظي بِه لأنها فضلته على أثرياء البلد، ووافقت على الزواج منه.
 أصر أن يثبت لها أنه يستحق هذا الامتياز، فقرر أن يحول نفسه إلى جني المصباح السحري وأصبح هدفه في الحياة إسعادها وتلبية كل طلباتها حتى لا تٌحرم من أي شيء كانت تحصل عليه في بيت أهلها.
حول نفسه إلى آلة لا تتوقف عن العمل، وأصبح لا يتواجد في المنزل إلا من أجل تناول الغداء والنوم، ولكن كل ما يكسبه كان يتبخر قبل نهاية الشهر بفضل قدرة داليا الجهنمية على إيجاد مصادر لإنفاق المال.
   كان يكتم ضيقه من إسرافها لكنه بعد فترة أدرك أنه لو ظل صامتًا على سفاهتها في الإنفاق سيجد نفسه قريبًا مضطرًا للاقتراض من أجل إرضاء رغبتها في تغيير هاتفها المحمول كل ثلاثة شهور، وشراء الثياب من أغلى المحلات، وقضاء الصيف في الساحل الشمالي.
 طلب نها برفق ولطف شديد أن تمسك يدها قليلا من أجل مستقبل أولادهما القادمين ولكنه لم يلق منها سوى التجاهل والإنكار.
في إحدى الأيام دخلت عليه المنزل وفي يدها كيس كبير أخرجت منه فستان سهرة فاخر، سألها عن ثمنه فقالت له خمسة ألاف جنية فقط. استغرب كيف تتحدث عن الخمسة ألاف وكأنها خمسة جنيهات .
قال لها وهو يحاول كبت غيظه:
-لم يكن هناك داع لشرائه فأنتي تملكين فساتين كثيرة.
 بدا عليها الغضب واحتدت عليه قائلة:
 - هل تريدني أن أحضر خطوبة ابنة عمي بارتداء إحدى فساتيني القديمة؟
 إنك شخص بخيل. لابد أن تشكر الله لأني مازلت زوجتك فأنا الآن أعيش في تقشف بالمقارنة مع حياتي في بيت أهلي.
 أصابه كلامها بصدمة عنيفة وكشف له أنه تزوج من إنسانة أنانية تافهة هوايتها الوحيدة في الحياة إنفاق المال بشراهة والتظاهر والبهرجة أمام أقاربها وصديقاتها، وأنه من المستحيل أن يلبي رغباتها حتى لو ظل يعمل لمدة أربعة وعشرين ساعة.
قرر أن ينقذ نفسه وأن يوفر من مرتبه من ورائها.  ولكنها لاحظت نقص المصروف فبدأت تتهمه بالبخل وإخفاء المال، تحولت حياة بهاء إلى مسلسل لا ينتهي يبدأ بشكوى ويشتعل إلى شجار حاد ثم يتحول إلى خصام وينتهي بصلح مؤقت وبعد يومين يبدأ شجار جديد.
 بدأت مشاعر بهاء تجاه داليا تذٌبل تدريجيًا حتى بدأ يشعر بالندم على زواجه منها، ولكن أوان الانفصال قد فات بعد أن صارت حامل. أدرك أنه سيضطر لتحمل حياته البائسة معها للأبد.
 رغم أن الابتسامة لم تكن تفارق وجهه أبدا أمام الناس إلا انه كان يرى نفسه إنسانًا تعيسًا عندما يقارن نفسه بمن حوله، وكثيرا ما تمنى لو أن زيجته كانت سعيدة مثل زيجة صديقه وجاره حسام و زوجته سماح، تلك المرأة الوديعة الهادئة التي لم يسمع أحد صوتها منذ أن سكنت في الشقة المقابلة له بل أنه كان يغبط جارته الأستاذة مفيدة على حياتها بدون زواج فهي على الأقل تعيش في أمان مادي ولا تخاف من المستقبل.
حسام وسماح:
لم يحدث أبدا أن رفضت أي فتاة الملازم حسام عبد الله لأنه ببساطة كان فتى الأحلام بالنسبة لكل فتيات القاهرة. إنه شاب ثري، وسيم، خفيف الظل ومن أسرة ذات نفوذ كبير، فمركز والده في وزارة الداخلية أمن له دخول كلية الشرطة بدون أدنى مجهود رغم أنه نجح في الثانوية العامة بمعجزة.
  كان حسا النجم الأوحد في أسرته لأنه الولد الوحيد بين فتاتين.
 تعود أن يأخذ أي شيء يريده بمجرد أن يفكر فيه وأن تمشي الحياة على هواه، لذا لم يتصور أن رؤيته لسماح في نادي الجزيرة ستغير حياته.
لفت انتباهه جمالها الهادئ وجلوسها بمفردها في حديقة النادي.
تقرب منها وحاول أن يتحدث معها متوقعًا منها تجاوب سريع ولكنها خذلته وقررت تجاهله.
 ولأن حسام لم يعتد على سماع كلمة لا أصر على التعرف على تلك الفتاة.
عرف من أصدقائه أنها ليست من رواد النادي وإنما جاءت مع صديقتها سها التي يعرفها جيدًا. ذهب لسها وسألها عنها فقالت له أن اسمها سماح وهي زميلتها في كلية الآداب.  ذهب إلى الجامعة في اليوم التالي من أجل مقابلتها وقبل أن يدخل مبنى الكلية رآها تقف أمامه. حاول أن يتحدث معها من جديد فتجاهلته للمرة الثانية.
فكر لثوان معدودة ثم أخبرها أنه جاء لأنه يريد عنوان منزلهم فحملقت فيه بدهشة وارتبكت ثم أعطته إياه والخجل يغطي وجهها.
سأل عنها فعرف أن والدها موظف متواضع في الحكومة، ولكنه يملك سمعة طيبة في عمله وفي حيه.
في البداية رفض والديه رغبته في الزواج من فتاة أقل منه في المستوى الاجتماعي والمادي   ثم وافقوا بعد ضغط وإلحاح شديد منه. لم يصدق أهل سماح أن عريس في مستوى حسام من الممكن أن يدخل بيتهم. بالغوا في الترحيب به وبوالديه وعندما رأى والد حسام طيبة ونبل أخلاق أهل سماح وجمال الفتاة وأدبها أزيلت كل الموانع ووافق الجميع على الخطوبة.
كانت أيام الخطوبة والشهور الأولى للزواج هي الأفضل في حياة سماح، كان حسام يعاملها كأميرة ويغرقها بالكلام الرومانسي والهدايا والاهتمام المبالغ فيه فوقعت في حبه لدرجة أنها سمحت له أن يدير حياتها باسم الحب.
أصبحت لا تخرج إلا معه ولا تلبس إلا ما يعجبه حتى التليفزيون لا تجرؤ على مشاهدته إلا بموافقته وعندما أنجبا ابنهما كان يملي عليها كيف ترعاه وماذا تطعمه رغم جهله التام بهذه الأمور.
تلاشت مع الوقت نبرة الحب من كلام حسام، وحل محلها الأمر والنهي والسخرية والتهديد والغضب. بات يستهزأ بآرائها ويوبخها على أقل خطأ ترتكبه وعندما اعترضت مرة على طريقته في معاملتها   قال لها:
 "أنتِ لا تساوين شيئًا بدوني ولولاي لبقيتِ في الحارة التي كنت تسكنين فيها".
تلك الكلمات زلزلت كيان سماح وسببت لها   جرح نفسي عميق جعلها تفيق من حياة الجواري التي عاشتها معه. شعرت بالندم لأنها سمحت لحسام بالسيطرة عليها، وأدركت كم فرطت في حقوقها وكرامتها من أجل حبها.
نمت لديها رغبة قوية في التحرر من هذا السجن الذي أدخلت نفسها فيه والرجوع إلى حياتها السابقة البسيطة، ولكن الرغبة وحدها لا تساوي شيئًا إن لم يصاحبها التنفيذ.
عندما أفصحت لحسام بإحساسها نحوه ثار عليها وكال لها الشتائم وأتهمها بالجحود وإنكار النعمة وأخبرها أنه يسيطر على حياتها ويملي عليها تصرفاتها لأنها غبية.
شعرت بالإهانة من كلامه وأخبرته برغبتها في الانفصال فضحك وتحداها أن تنفصل عنه أنها لا تجرؤ على الانفصال عنه، وأكد له أنها لن تستطيع الاستغناء عن ماله.
 اقترح عليها ساخرًا الخُلع إذا أرادت الطلاق وهددها بأنه لن ينفق على الطفل فبكت من قسوة كلامه وتعجبت من تغير شخصيته في هذه المدة الزمنية القصيرة، لكنها أدركت بعد ذلك أنها لم تكن تعرفه من الأصل.
عندما اشتكت لأهلها رفضوا انفصالها عنه ونصحوها بتحمل الحياة مع حسام من أجل ابنها.
نفذت نصيحتهم بعد أن رأت انه لا مفر من تقبل الأمر الواقع، ولكنها صارت تكرهه وتكره نفسها كل يوم لأنها تعيش معه تحت السقف نفسه. كانت تعتقد أن كل النساء حولها سعيدات وهي الوحيدة التعيسة. كثيرا ما تمنت لو تعيش حياة داليا زوجة الدكتور بهاء.
 إنها لم تر من قبل رجلًا يعامل زوجته بهذا الاحترام، وأحيانا كانت تتمنى لو عاشت مثل مفيدة، تلك المرأة لقوية المستقلة التي لم تسمح لرجل باستعبادها وعاشت حرة وإن كانت وحيدة، فالوحدة خير من الحياة مع ديكتاتور.


0 تعليقات