كان لابد أن أذهب لزيارة عمي  فكري حتى أتأكد بنفسي من صحة ما  رواه لي ابنه فتحي عنه "  لقد  توقف أبي  عن الخروج  من المنزل وأصبح يقضي كل وقته في النوم رغم أنه لا يعاني من أي مرض " .
 في طفولتي كنت أتطلع بمزيج من الانبهار والخوف   لعضلات عمي فكري  المفتولة وجسده الضخم وطوله الفارع.  كان   الأكثر نشاطا وهمة بين أعمامي وأكثرهم حبا للعمل والحركة  .  وحتى  بعد  أن أحيل على المعاش من عمله في إحدى شركات الحديد والصلب  كان يخرج يوميا ليشتري طلبات المنزل لزوجته ويقضي بقية اليوم في المسجد ليصلي ويقرأ القرآن  أما الليل فكان يقضيه  مع أصدقائه على المقهى  , فما الذي جعله يكره الخروج ويعشق  الكسل فجأة   ؟
ضغطت على   جرس شقته وفي داخلي شوق لمقابلة   عمي الذي أعرفه وأحبه .
 فتحت زوجته سامية الباب ورحبت بي  بحفاوتها المعهودة  .
 قدمت لي كوبا من  الشاي  ثم دخلت لكي توقظه .
 بعد   دقائق قليلة   رأيته يخرج من حجرته ويقترب من حجرة الصالون التي أجلس فيها   ببطء   .
كان   يحاول موازنة خطواته   كأنه يمشي فوق حبل رفيع ويخشى  أن ينزلق من عليه ويسقط  على الأرض  .
  اندهشت عندما رأيت كل شيء في جسده متورما  بداية من وجهه وجفونه ورقبته وبطنه و انتهاءً  بأصابع يديه وقدميه كأن هناك أحدا حقن  جسده بمادة البوتوكوس  .
 " هاني "  نطق اسمي بصوت كالأنين المكتوم وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة مرحبة  .
  اقتربت   منه   لكي أحتضنه .  تسللت   إلى أنفي من جسده رائحة عرق حمضية كرائحة الطعام الفاسد   , ابتعدت عنه لا إراديا وأنا أشعر بالحرج .
سألته " لماذا يبدو عليك التعب   ؟   هز كتفيه بلامبالاة و نظر لي  بعينيه اللتين كانتا تبدوان   كعينا سمكة ميتة  وقال بصوته المبحوح "  أنا مريض    " .
- إذا كنت مريضا من الممكن أن اصطحبك للطبيب .
أشاح بيديه  في ضيق ثم  هز رأسه بالنفي بدون أن يتكلم 
سألته " لماذا   ؟"
- ما الفائدة    أنا خلاص
طلبت منه   أن يكمل جملته ولكنه طأطئ رأسه في الأرض وظل صامتا لثوان  ثم عاد يبتسم وسألني "  كيف حال زوجتك وأولادك   ؟"
حكيت له عن المشاكل التي حدثت   بيني وبين زوجتي حيث أنني تشاجرت معها وطلقتها للمرة الثالثة فلم يعد ينفع أن أعود لها   .
ولقد عادت لمصر مع الأولاد   بينما بقيت أنا في السعودية وقد جئت في أجازة لمدة شهر  . أردت أن أرى أولادي ولكنها ظلت تخترع أعذارا   لكي لا تحدد لي موعدا لرؤيتهم.
كان عمي  يتابع كلامي  وعلى  وجهه    نفس الابتسامة المرحبة  التي قابلني بها  رغم أن  حديثي لم يحتوي  على أي شيء يثير الابتسام     .و  فجأة أغمض   عينيه ومال برأسه  لليمين   فتملكني الحرج  .
لاحظت زوجته التي كانت تجلس في حجرتها تشاهد التليفزيون أنني قمت من مكاني  ,فدخلت علينا واقتربت منه ثم أخذته من ذراعه ومضت به لحجرة نومه  .
مشي معها بدون أن يودعني  ولكني ودعته بعيني   وهو يبتعد عني  حتى عاد لحجرته وأوى لفراشه مجددا  .
بعد أن خرجت   زوجته من الحجرة   نظرت لها بقلق وسألتها عن ما جرى له    . أخبرتني   أنه منذ   أن توفى صديقه  المقرب فجأة  وهو لا يفعل سوى شيئين في حياته النوم والأكل  .
   قلت لها  " من المحتمل أن يكون مريضا   "
 هزت رأسها بالنفي وقالت لي
 " لا  , خضع  أشعة  وفحوصات كثيرة  واتضح أنه سليم , اعتقد أن السبب هو تأثره الشديد  بوفاة صديقه المقرب  "  .
 تطلعت بحزن لزوجة عمي ثم شكرتها على حسن ضيافتها وانصرفت ولقد تملكني شعورا مقبضا أن هذه هي أخر  مرة أرى فيها    عمي الحبيب  .
ولكن اتضح  أن شعوري كان خاطئا . لقد طال العمر عمي فكري     لعدة سنوات  حتى توفى بعد أن ناهز الثمانين ولكنه قضى كل هذه السنوات نائما .




0 تعليقات