كلما أرى ابني الصغير يكسر ألعابه الجديدة أو يلعب في الشارع رغما عنا أرى الطفل القديم في داخلي بعث فيه و اقتنع بالمثل القائل أن ما شابه أباه فما ظلم و عندما تتعدى شقاوته الحدود وأشعر برغبة شديدة في ضربه يقفز أمامي مشهد ضربي وأنا طفل بكل تفاصيله ونتائجه السيئة فأتراجع وأطلب من زوجتي أن تختار أي طريقة لعقاب الولد ماعدا الضرب .


لن أنسى طوال حياتي تلك الحادثة فعندما أكملت الخمس سنوات كنت مثل أي طفل اللعب بالنسبة لي مثل الماء والهواء و بدأت أتلهف على اللعب بالكرة مع أولاد الجيران في الشارع ولكن خوف أبي وأمي من السيارات الطائشة جعلهما يفرضان علي اللعب بالمنزل مثل أختي الصغيرة و عندما شرحت السبب لأصدقائي سخروا مني ولقبوني بالأرنب , إتهامهم لي بالجبن أشعرني كرجل صغير بالطعن في كرامتي فقررت أن أخالف الأوامر وأنزل الشارع وأهزمهم في لعب الكرة ,انتهزت فرصة نوم أبي وأمي بعد العصر وتسللت بهدوء شديد إلى الشارع لكي ألحق بالمباراة ,أذهلتهم رغم صغر سني بقدرتي على التحكم في الكرة وكدت أن أحرز هدف لولا أن جاءت سيارة مسرعة كادت تخطف حياتي في طريقها ولكن جارنا الطيب جاء في اللحظة المناسبة و شدني إلى الرصيف ثم أصر على تسليمي لأبي و وقف يلومه على السماح لطفل في مثل سني على اللعب في الشارع .

بعد أن شكر أبي جارنا سخن الدم في عروقه من فرط الغضب والخوف من وقوع الكارثة التي كانت ستنتظرني إذا لم يتدخل الرجل ,صمم أبي على تلقيني درسا لا أنساه فوضع كل القوة التي يملكها في يديه الكبيرتين وأنهال علي ضربا شديدا, رحت أبكي و أصرخ بأعلى صوتي ولكن لم يأتي أحد لإنقاذي من هذا الجحيم الذي كنت أختبره لأول مرة في حياتي ,بعد أن أنهى وصلة الضرب كانت كل خلية في جسمي تتألم وتتأوه بقوة لدرجة أن عيني لم تعد قادرة على إفراز الدموع للتنفيس عن ألمي .

لم تستمر الأثار الجسدية للضرب في جسدي طويلا ولكن الأثار النفسية استمرت إلى درجة جعلتني أنتفض وأرتعش كلما مرت هذه الحادثة على عقلي , كانت تلك الضربة الأولى ولكنها لم تكن الأخيرة فأي خطأ بداية من رسوبي في إمتحان الحساب إلى ردي على أمي بصوت عالي كان سببا لظهور عصا أبي الغليظة في وجهي فأصبح أبي في عيني كالأسد الهائج المستعد في أي لحظة للهجوم على فريسته تلك الضربات بقدر ما أثارت في نفسي الغضب والسخط على أبي إلا أن أوجاعها علمتني أول درس في حياتي وهو أن استخدام القوة والتخويف هي الطريقة الأفضل لتنفيذ أي شئ يريده الإنسان فقوة أبي الجسدية هي التي جعلتني أنفذ كل مطالبه وأنا مغمض العقل فأصبح هدفي هو تجنب غضب والدي .

عندما بلغت السبع سنوات حان وقت إلتحاقي بالصف الأول الإبتدائي ,عندما دخلت الفصل وتفحصت التلاميذ فرحت لأني أكبرهم حجما فاكتشفت لأول مرة أن بنية جسمي قوية كبنية أبي.

كانوا كثيرا ما يضايقوني بأخذ أدواتي المدرسية رغما عني أو الإصطدام بي عن عمد إستغلالا لمسالمتي معهم ولكن في أحد المرات ضقت ذرعا بأحدهم فأستيقظ الدرس الأول الذي علمه لي أبي داخلي وقررت تطبيقه عمليا على الولد الذي أوقع أقلامي لإثارة غضبي فتحولت إلى وحش صغير وصفعته على وجهه فأوقعته أرضا لكي أعلمه أن يفكر في هذه الضربة قبل أن يضايقني مرة أخرى ,ذهب هذا الطالب وأشتكى للمدرس الذي عاقبني بالوقوف خارجا طوال الحصة , عندما دخلت الفصل وجدت الطلبة ينظرون بعيون خائفة مترقبة فشعرت بفخر شديد لأني جعلت الطلبة يتحاشون إغضابي خوفا من التعرض للعاقبة التي تعرض لها زميلهم ومن هذا اليوم أصبحت حياتي في المدرسة مختلفة فقد عرفت كيف استخدم قوتي الفطرية كسلاح لتحقيق كل ما أريده في أي وقت حتى لقبني كل الطلبة بفتوة الفصل فإذا أردت أي حلوى أعطاها لي صاحبها بدون نقاش وإذا أردت اللعب في أي وقت تحقق لي ذلك في ثانية وإذا أردت الجلوس في مكان معين أجبرت الجالس فيه على البحث عن كرسي أخر و كنت أعرف بذكائي الوقت المناسب لاستخدام سلاحي فلم أجرب أبدا فعل ذلك أمام المدرسين لأني كنت أعلم أنهم أقوياء مثل أبي ومع ذلك كانت تكثر الشكاوى ضدي عند المدير ولكن أهلي لم يكن لديهم وقت للذهاب للمدرسة فكانوا يقولون لي حل مشاكلك بنفسك .

إستخدامي لقوتي ساعدني على تكوين شلة من ثلاثة أولاد كانوا تابعين لي مهمتهم خدمتي و تنفيذ طلباتي مقابل أن أعطيهم الحماية بالدفاع عنهم ضد إي إعتداء ,كنت سعيد بزعامتي للشلة ورغم أني كنت أؤنب نفسي في بعض الأحيان عندما أرى دموع الضعف في عيون ولد أو أرى ولد أخر ينظر لي بكراهية وخوف إلا أني كنت أذكر نفسي أن حياتي ستعود لصعوبتها السابقة إذا رميت سلاح القوة .

عندما حان وقت التحاقي بالصف الثاني كان من المتوقع أن يستمر عصر القوة المطلقة وقد لاحظت مجيء تلميذ جديد إلى فصلنا .كان اسمه سمير و كان يساوي طفلين في مثل حجمي

,كان كل شئ فيه ضخم حتى وجهه ولكن نظرة عيناه التي توحي بالبلاهة والغباء جعلتني أستبعده كمصدر خطر ,بدأت أول وأخر مواجهة لي معه عندما كنت أضرب تلميذ لأنه رفض إعطائي الحلوى التي إشتراها, بعد أن دفعته بعيدا ظهر سمير أمامي فجأة كالعفريت وخاطبني بصوت منخفض ولهجة حازمة قائلا :

- لماذا تضرب هذا الولد ,أنه صديقي ,أتركه حالا

رددت عليه بتحدي حتى أختبر حدود غضبه

- وإذا لم أتركه ماذا ستفعل ؟

- أحسن لك ألا تعرف

- لن تفعل شئ ,أنا زعيم هذا الفصل وأنت مجرد ولد سمين منتفخ كالبالون ,أبعد عني وأنجو بنفسك .

ولكن أنا من كان يجب أن ينجو بنفسه في تلك اللحظة لأن غروري عماني عن توخي الحذر من هذا الولد فوجدته ينظر لي ضاحكا ويمشي و بعد إنتهاء اليوم الدراسي ظهر لي فجأة مرة أخرى ثم قال لي سأريك ماذا سأفعل فحملني إلى أعلى ثم رماني بعنف على الأرض ثم ركلني بقدميه العمقلاتين كما يركل اللاعب كرة القدم ولولا أن تدخل أحد أولياء الأمور ليبعده عني لأدت ضرباته إلى إدخالي المستشفى ,كل تلاميذ المدرسة استمتعوا بالمشهد وكأنهم يشاهدون فيلم مسلي وكانت عيونهم مملوؤة بالتشفي والشماتة لأنهم رأوا اليوم الذي تحولت فيه إلى ضحية بعد أن كنت الفتوة الجبار ,بعد هذا اليوم أنهار سلطان الخوف والقوة الذي كنت أحكم به الفصل وإنهارت هيبتي في عيون زملائي وبل تنكر لي أعضاء الشلة وذهبوا جميعا ليأخذوا بركات سمير الذي أنتزع مني بكل جدارة لقب فتوة الفصل ولكن ذكائه تغلب على قوته فلم يقم بتقليد أفعالي الباطشة فقد كان يعامل أصدقائه باحترام ولم يلجأ للاستعراض أو الإهانة مما جعله محبوب من كل التلاميذ بينما وضعتني أخطائي السابقة في موضع المنبوذ في الفصل فيدي التي لم يسلم منها أحد أشاعت الكراهية بين الجميع وجعلتهم يرفضون مشاركتي لهم في اللعب أو مساعدتي في أي شئ مما جعل هذا العام هو أسوأ عام في حياتي, و رغم شعوري بالندم و الوحدة إلا أني فكرت في شيء غريب وهو أن لولا الضربات التي تلقيتها من أبي لربما ما خطر في بالي أن أضرب أي ولد ,فقررت ألا أعاقب أبني بالضرب حتى لا يكرر تاريخي في الفتونة .

0 تعليقات