عزيزي القارئ المجهول
 تحية طيبة وبعد,
أشعر أن ما أقوم به الآن هو ضرب من ضروب الجنون, كيف أجرؤ على كتابة رسالة إلى شخص غريب لا أعرف هويته أو ملامحه أو مكانه ولست حتى متأكدة أن له وجود في الواقع , بالرغم من ذلك أنا مقتنعة كليا أنك موجود في مكان ما على كوكب الأرض وأنك تنتظر رسالتي.
عندما كنت أحاول تعلم  فن الكتابة اطلعت على نصائح من كتاب كبار  يوصون بضرورة أن يضع الكاتب نصب عينيه قارئا يهتم بما يكتب ويتفاعل معه, قد يكون هذا القارئ  شخصا حقيقيا مثل صديقه المقرب أو زوجته, وقد يكون شخصا خياليا أو افتراضيا يخترعه الكاتب في ذهنه حتى لا يشعر أنه  يتحدث مع نفسه.
ولأن معظم المقربين مني لا يحبون القراءة فقد قررت أن اخترعك ووضعت فيك كل الصفات التي أتمناها في صديقي المقرب.
 تخيلت أنك شخص مثقف, شغوف بالمعرفة, ذكي , لماح , سريع البديهة , حكيم  , مستقل , لا يحب السير وراء القطيع, منفتح فكريا ,لديه الاستعداد لتقبل الرأي الآخر, يشعر بالوحدة في المجتمع ويتمنى أن يجد من يتحدث معه ويتبادل معه الأفكار.
 عندما شرعت في الكتابة  وبدأت في نشر ما أكتبه في الفضاء الكتروني صدقت أنك موجود , وأنك تبحث عني وتنتظرني حتى أكتب لك وأؤنس وحدتك وأعبر عن ما يجول في ذهنك وأنك عندما بعد أن تقرأ لي سوف تتفاعل معي وتتبادل معي النقاش والحوار.
 صدقت أنك لست شخصا واحدا ولكن هناك مثلك المئات بل آلاف ينتظرون مني ومن غيري التعبير عنهم. مع مرور الأيام والشهور والسنوات وتتابع التدوينات والقصص القصيرة والمقالات وصدور روايتي الأولى ظللت انتظرك وابحث عنك في التعليقات والتفاعلات التي كانت تصلني من الناس  ولكني للأسف أصبت بإحباط كبير , لأني إما  كنت أجد  تعليقات اعلانية من شركات لمكافحة الحشرات أو أجد تعليقا من شخص يشكرني على المقال أو القصة ثم اكتشف من كلامه أنه لم يكلف نفسه سوى بقراءة السطور الأولى من النص ثم تسرع في التعليق وإبداء رأيه أو أنه فهم شيئا في النص مختلف تماما  عن ما كنت أريد الحديث عنه. وفي وسط هذه التعليقات والتفاعلات  كنت أحيانا أجد قراء حقيقين يشبهونك ويقتربون من شخصيتك ولكن هؤلاء القراء كانوا مثل ومضات تظهر وتختفي سريعا وسط الظلام لكنها لا تبقى طويلا, ورغم أن الأرقام تثبت أن هناك عدد غير قليل يزورون مدونتي لكن نظرت إلى  مصادر البحث اكتشفت أن أغلب هؤلاء الأشخاص أخطأوا طريقهم لموقعي بعد أن ظنوا أنه يحتوي على قصص جنسية بسبب العناوين المثيرة لبعض قصصي مثل ( شقة مفروشة ) و ( خلوة محرمة ).
اكتشفت بمرور الوقت الحقيقة المؤلمة التي كان من المفترض أن أعرفها ولكني اخترت إنكارها وهي  أن القارئ في العالم العربي  كائن نادر الوجود , ربما لأننا اعتدنا الربط بين القراءة وبين المذاكرة والحفظ والامتحانات وغيرها من الأشياء الثقيلة على النفس التي صدرها لنا نظامنا التعليمي الفاشل, وربما لأننا صرنا نخاف من المعرفة لأنها تؤدي إلى الإحساس بالواقع المؤلم ونصادق الجهل الذي يجعلنا ننفصل عن هذا الواقع ونعيش في حالة مريحة من الإنكار , وربما لأن الشباب مشغولون بأشياء أكثر أهمية من القراءة , فلماذا يقرأون وهم يستطيعون قضاء وقتهم في الالعاب الالكترونية وتصفح المواقع الإباحية ؟, لماذا يحصلون على معلوماتهم من المقالات والكتب إذا كان بإمكانهم الحصول على نفس المعلومات من البوستات والتويتات  " العميقة " التي يكتبها مشاهير السوشيال ميديا.
 رغم إدراكي لكل هذه الحقائق واصلت  إقناع نفسي أنك موجود, كل ما في الأمر أنك شخص خجول ومتحفظ لا تحب التفاعل كثيرا وتفضل القراءة في صمت, ولكنك حتما تشعر بما أكتبه وتتأثر به وربما يأتي اليوم الذي تستطيع فيه أن تهزم خجلك وتستجمع شجاعتك وتكشف عن نفسك وتعلن عن وجودك.
 ظللت انتظر ظهورك كما ينتظر المؤمنون ظهور المهدي أو المخلص, ولكن مع مرور الزمن تمكن اليأس مني تدريجيا حتى بدأت اقتنع أنني مجنونة وأنني أخطأت عندما صدقت وجود شخص اخترعه خيالي في الحقيقة , وأنني لابد أن أتخلى عن أسلوبي المعتاد في الكتابة والموضوعات التي اتحدث عنها وأن أتوقف عن كتابة القصص القصيرة التي ليس لها جمهور , وأن أفعل كل شيء من أجل جذب القراء الحقيقين الموجودين في الواقع فالجأ إلى الكتابة في الموضوعات الرائجة وأضع العناوين المثيرة التي يمكن أن تلتقطها محركات البحث واجعل الهلس والترفيه هو هدفي الوحيد من الكتابة. اعترف أنني فكرت أن أفعل كل ذلك ولكني عجزت عن التنفيذ لأني شعرت أن هذا التغيير سيكون خيانة لنفسي ولقلمي ولفكري ولقناعاتي , ربما أنا عنيدة وربما أنا متصلبة ولكني لم استطع أن أغير شخصيتي وطريقة تفكيري من أجل أن أصير مشهورة وأحظى بآلاف المتابعين  الذين لا يشبهوني ولا اشبههم.
كان أمامي اختيارين . إما أن أتوقف عن الكتابة تماما طالما أن كتاباتي لا تصل إلى أحد وإما أن أواصل الكتابة من أجل نفسي , الاختيار الأول بدا لي الأفضل والأكثر منطقية خصوصا بعد العقبات والعثرات القوية التي واجهتني من أجل نشر كتاباتي وإيصالها للجمهور, ولكني اعترف أنني في كل مرة كنت أقسم فيها أنني سأتوقف عن الكتابة نهائيا كنت أتراجع عن هذا القسم بعد أسابيع قليلة وأجد نفسي رغما عني أريد الهروب من الحياة والواقع المؤلم فألجأ إلى الكتابة مجددا كما يلجأ المسافر إلى الواحة التماسا للماء والراحة.
طالما سمعت عن فكرة الكتابة للذات وهي أن يكتب الأديب من أجل نفسه وينسى القراء أويتجاهل وجودهم ولكني عجزت عن تنفيذها لأني رأيت أن تجاهل القراء يجعل الكاتب يشطح في أفكاره وخيالاته فتصبح كتاباته ذاتية بشكل زائد وتنفصل عن الواقع وعن هموم الناس وحياتهم, ولكني  فهمت معنى فكرة أن أكتب لنفسي عندما قرأت هذا المقطع في كتاب الشاعر السوري ممدوح عدوان مقدمات دفاعا عن الجنون.

خير ما تكتبه هو ذلك الذي تكتبه وكأن أحدا لن يقرأك , ذاك الذي تكتبه باطمئنان وكأنك تعترف, كأنك تتعرى, كأنك تضع نفسك المحملة على طاولة وتشرحها وأنت مقفل على وحدتك الباب ونوافذ البيت بلا خجل بلا خوف بلا حساب لأحد.
تدخل البيت وكأنك تريد أن تبكي كأنك كنت  تخجل من الناس أو تخافهم وفي البيت تتناول قلمك وتبدأ عملية التشريح.
بعد قليل تبدأ الكتابة بحرية وعفوية , تنسى كل شيء إلا شيئا واحدا يتدفق كالنزيف  كالتعرق  دون اعتصار ويكاد يكون دون أن تدري.
قد يمارس الآخرون عليك ضغطا وأنت في هذه الحالة دون أن تشعر أو يشعروا , يمارسونه بحبهم, بإعجابهم, باستهزائهم, بأي موقف تدري أنهم يتخذونه من كتابتك, حبهم يضغط عليك دون أن تدري .. انه يمسك بك ويسمرك عند الكلمات التي أحبوها عند الأفكار التي يريدونها واستهزاؤهم قد يدفعك إلى تجنب أشياء كنت تريدها وتقتنع بها أو يدفعك إلى طرح أمور لا لزوم لها إلا الرغبة المجردة في تحديهم.
مجرد إحساسك بهم , لحظة الكتابة إحساسك بتوقع شخص ما تعرف انه يترقبك وليس بالضرورة يراقبك يجعلك تتعثر وتتلعثم كأنك تود السير بخطى لا تدري كيفيتها لأنك لا ترسم خطواتك ويشعرك أحدهم أنه يرقب قدميك عندما لن تستطيع السير طبيعيا.
هذا المقطع أنار عقلي وبصيرتي, وكشف لي عن السبب الحقيقي الذي يعطلني عن الكتابة بحرية و الذي يجعلني أشعر بخوف شديد كلما جلست أمام الكمبيوتر لأكتب , والذي  يجعل الأفكار تهرب من رأسي قبل أن أدونها على الورق والذي يجعلها تخرج في بعض الأحيان مبتورة أو ناقصة. السبب هو أنت , هو أنني كنت استحضر وجودك طول الوقت وأتخيلك وأنت تراقبني وتنتظرني بل وتنتقد أفكاري وتستهزأ بها قبل أن أكتبها.
إني أخاف منك , أخاف أن أخذلك, أخاف أن ترى كتاباتي تافهة , أخاف ألا تفهمني أو أن تفهمني بطريقة خاطئة, أخاف أن أفشل في التعبير عنك , أخاف أن أفشل في إبهارك وهذا الخوف هو منبع كل مشاكلي في الكتابة. هذا الخوف تحول إلى هوس , هوس بإرضائك رغم ادراكي أنك لا يمكن أن ترضى وهوس بجذبك إلى صفي رغم إدراكي أنك لا تهتم بسهولة ولا تصفق لأي أحد.
لقد تقينت أن الحل هو أن اتجاهل وجودك ولا أعبأ بك , أن أفكر وأتأمل وانطلق في الكتابة بدون أن أحسب لك حسابا لأنك على أي حال لن تهتم , بالطبع من المستحيل أن أنساك تماما ولكني على الأقل سأحاول أن أتظاهر بنسيانك.
عزيزي القارئ المجهول, كم تمنيت لو لم تكن مجهولا , كم تمنيت لو أعرف من تكون  وكيف تفكر , ولكنك اخترت أن تعيش في الظل وتكون لا مرئيا . لذلك سامحني لأنني قررت التوقف عن ارضائك والاهتمام بك وقررت أن أهتم بما أكتب فقط.

0 تعليقات