إذا قرأت المقالين  السابقين لي عن خبايا ومشاكل النشر المدفوع فلابد أنك استنتجت أن النشر المدفوع  في معظم الأحيان هو خطأ  كبير يرتكبه الكاتب في حق نفسه  لأنه في أسوأ الأحوال يعرضه للنصب والاحتيال, وفي أحسن الأحوال يستنزف وقته وطاقته في القلق على مبيعات كتابه والخوف من عدم استرداده لأمواله بدلا من أن ينفق تلك الطاقة في التفكير والإبداع.البديل الأفضل هو التعامل مع الدور التي تتبع سياسة النشر المجاني فلا تكلف الكاتب شيئا  وتهتم بتوزيع كتابه جيدا وتعطيه نسبة لا تقل عن عشرة في المائة من المبيعات.النشر المجاني يبدو من الخارج سهلا ومتاحا للجميع ولكنه في الحقيقة شديد الصعوبة والتعقيد لأن أبوابه محدودة جدا وأغلبها مغلق.
الدور التي تتبع سياسة النشر المجاني تنقسم إلى نوعين:

النوع الأول هم مؤسسات النشر الكبرى التي لها خبرة وباع طويل في  المجال, هذه المؤسسات رغم تظاهرها بتبني جميع الموهوبين تتبع سياسة " للكبار" فقط , الكبار هنا المقصود بهم كبار ومشاهير الكتاب.  لو قررت أن تراسلهم لن تلقى منهم سوى التجاهل وإن تفضلوا واهتموا بالرد عليك سيكون الرد الحتمي هو الرفض بدون إبداء الأسباب أو بحجة عدم مناسبة العمل للدار.
النوع الثاني هم دور النشر الأصغر التي تم إنشاؤها حديثا ولكنهم يمتلكون ميزانية جيدة لإصدار الكتب بالمجان, ولأن هذه الدور هي الأمل الوحيد المتاح للكتاب الجدد لنشر أعمالهم بدون تحميلهم أعباء مادية  فإن دخولها صعب جدا لأن القائمين عليها ينشرون عددا محدودا من الكتب حتى يتمكنوا من التركيز في توزيعها والتسويق لها. الطابور المؤدي إلى دخول تلك الدور طويل جدا ومكانك في الطابور من الممكن أن يكون في المقدمة أو في الخلف اعتمادا على عدة عوامل :

إذا كنت من مشاهير السوشيال ميديا أو إذا  كنت تمتلك واسطة وعلاقات قوية في الوسط الثقافي لن تحتاج للوقوف في الطابور من الأصل بل ستكون موضع ترحيب واهتمام من كل دور النشر الكبيرة والصغيرة.
إذا كنت من كتاب الرواية وبالتحديد أدب الرعب والروايات البوليسية والكتب الساخرة فمكانك سيكون في مقدمة الطابور. إذا كنت من كتاب الروايات الرومانسية والاجتماعية والسياسية بهذا الترتيب فمكانك في منتصف الطابور.
أما لو كنت من  الشعراء أو كتاب القصة القصيرة أو الخواطر أو المسرحيات فمكانك في مؤخرة الطابور أو ربما تكون خارجه تماما, هذه  النوعية من الكتب للأسف لا يميل لها الناشرون لأن المكتبات ترفضها  لقلة مبيعاتها مع وجود استثناءات محدودة تحدث مع مشاهير الشعراء وكتاب القصة القصيرة.

في جميع الأحوال سيكون عليك أن ترسل للناشر ملخص قصير لعملك حتى لو كان كتابك لا يحتمل التلخيص. بعدها سيكون عليك أن تتحلى بالصبر لأنك ستكون مضطرا للانتظار في الطابور لشهور طويلة وستكون مضطرا لاحتمال تجاهل الناشر لرسائلك.  الرد قد يأتي في أي لحظة وقد لا يأتي أبدا حسب مزاج الناشر وظروفه وكم الكتب المعروضة عليه. في معظم الأحيان يكون الرد هو الرفض, الرفض قد يكون لأسباب موضوعية أو لأسباب تسويقية أو بدون أي أسباب. وحتى إن تفضل عليك واهتم بقراءة كتابك وحتى إذا حدثت المعجزة ووافق على التعاقد معك فسيكون عليك الانتظار مرة أخرى لمدة طويلة حتى يتم اصدار عملك.  لقد صار كتابك في قبضة الناشر بمفرده وصار من حقه  أن يصدره في أي وقت أو أن يؤجله أو يتراجع  عن نشره تماما حسب ظروفه و رؤيته التسويقية, وليس أمامك سوى الصبر والانتظار والتضرع إلى الله لكي يهديه حتى يفرج عن عملك في أقرب وقت ممكن.
 ماذا لو وافق الناشر على عملك بناء على قراءته للمخلص وبعد أن تعاقد معك وقرأ العمل بأكمله اكتشف انه لا يناسب توجهاته أو انه لن يحقق له الربح المتوقع ؟.
في هذه الحالة قد يطلب منك إعادة كتابة العمل وتعديله بما يتناسب مع رؤيته أو قد يلقيه ببساطة في الدرج ويوهمك أنه سيؤجل نشره إلى وقت غير معلوم. لو اعترضت وطالبته بتحديد موعد للنشر سيتبع سياسة الصمت والتجاهل والهروب حتى يجبرك على فسخ العقد بنفسك. بالتدريج ستفقد كرامتك وعزة نفسك وتتحول إلى شحاذ يرجو ويلح ويتسول العطف والاهتمام من دور النشر حتى يلتفتون إليك ويقرأون عملك ويوافقون على إصداره.
مهما كنت تتمتع بالصبر وقوة العزيمة فلابد أن ينفد صبرك بعد حين وتنهار قوتك على احتمال الرفض والتجاهل والمراوغات والحجج التي لا تنتهي.
في النهاية قد تنطفئ شعلة الإبداع داخلك وتلوم نفسك على استجابتك لأحلامك الأدبية وتقرر إنقاذ نفسك من تلك المعاناة وتتوقف عن الكتابة تماما.
 هناك عددا كبيرا من الكتاب الواعدين دفنوا مواهبهم الأدبية رغما عنهم من فرط الإحباط  الذي تعرضوا له بعد أن وجدوا جميع الأبواب مغلقة في وجوههم لأنهم لا يمتلكون المالي الكافي لنشر أعمالهم ورقيا أو الوساطة والعلاقات القوية التي تسهل عليهم دخول الوسط الثقافي.

 

هناك من حاولوا الاستمرار في الكتابة بطريقة مختلفة ولجئوا للنشر الالكتروني كبديل أسهل وأسرع لعرض أعمالهم على القراء.لا شك أن النشر الالكتروني يتمتع بمميزات عديدة أهمها انه مجاني فالكاتب لا يدفع شيئا لكي ينشر عمله والقارئ لا يدفع شيئا حتى يقرأه , كما انه يتخطى تعنت دور النشر الورقي  ويلغي كل الوسائط التي تحول بين الكاتب والقارئ مما يسهل وصول الكتاب للناس في جميع أنحاء العالم بدون الحاجة للشحن والمكتبات وخلافه.
 على الجانب الآخر فإن النشر الالكتروني له عيوب كثيرة أهمها أنه لا يتيح للأدباء إثبات ملكيتهم الفكرية لأعمالهم بسهولة مما يسهل تعريض أعمالهم للسرقة والاقتباس ,والحل الوحيد المتاح أمام الكاتب هو أن يقوم بطباعة كتابه بنفسه  ثم يذهب للشهر العقاري ويدفع مبلغا وقدره حتى يسجل كتابه ويثبت حقوقه الفكرية, تسجيل الكتاب لن يردع لصوص الأفكار تماما عن السرقة لكنه سيسهل على الكاتب مقاضاتهم.
العامل الآخر الذي يجعل الكتاب لا يقبلون على نشر أعمالهم الكترونيا هو أن الكتب الالكترونية تعاني من قلة الاهتمام والتقدير, فرغم أن أرقام تحميل الكتب الالكترونية قد تفوق أرقام مبيعات الكتب الورقية إلا أن تلك أرقام التحميل نادرا ما تتحول إلى اهتمام حقيقي بقراءة العمل.
لا تزال الكتب الورقية الصادرة من دور  النشر المعروفة تحظى بتقدير وشهرة أكبر بينما يتعامل القراء مع الكتاب الالكتروني باستخفاف وارتياب باعتباره كتاب مشكوك في قيمته وجودته لأنه لم ينل شرف النشر العادي. العجيب أن معظم القراء يفضلون قراءة كتاب ورقي مسرب الكترونيا على قراءة كتاب الكتروني مجاني, كما أن الكتاب الورقي الذي دفعوا من أجل اقتنائه يحمل لديهم  قيمة أكبر من الكتاب الالكتروني المجاني المتاح أمامهم بسهولة . 

هل توجد حلول ووسائل أخرى لإنقاذ الكتاب الجدد من جحيم النشر المدفوع و من معوقات النشر المجاني ؟

لا اعتقد أن هناك إجابات جاهزة على هذا السؤال ولا أعتقد أن هناك طرق سهلة يمكنها أن تخفف المعاناة التي يخوضها الكتاب الجدد لنشر أعمالهم. هناك من يرى أن الحل هو أن تعود الدولة ممثلة في وزارة الثقافة إلى الاهتمام برعاية المواهب الأدبية ونشر كتبهم بالمجان. ولكن من يرى سوء التوزيع والتسويق الذي تعاني منه الكتب الصادرة عن وزارة الثقافة بسبب البيروقراطية وسوء الإدارة سيفضل الذهاب إلى  دور النشر الخاصة رغم كل مساوئها ,فكيف يمكن لنظام يعجز عن  توفير الطعام والتعليم والرعاية الصحية للمواطنين أن يوفر الدعم للمواهب الأدبية ؟.

في النهاية أرى أن الفساد والعشوائية وسوء الإدارة الذي تعاني منه دور النشر في مصر ما هو إلا  جزء صغير من الفساد  والعشوائية وسوء الإدارة الذي يعاني منه المجتمع والنظام بأكمله , الحلول الفردية لن تجدي نفعا وإصلاح حال الثقافة والأدب لن يتم بشكل جذري إلا بإصلاح المجتمع كله وإصلاح النظام حتى يستطيع أن يضمن للمواطنين حياة كريمة أولا ثم يضمن لهم الوسائل العادلة لتحقيق طموحاتهم وأحلامهم. لا أعتقد أن الإصلاح قادم قريبا رغم أنني أتمنى من كل قلبي أن أكون مخطئة.
في نهاية تلك السلسلة أحب أن أؤكد أن هدفي من كتابة هذه المقالات هو  الإفصاح عن الحقيقة كما أراها لأني أؤمن أن الحقيقة سوف تحررني وتحرر من يقرأها ولو قليلا من الإحساس بالقهر والظلم الواقع علينا كأدباء. 

يمكنكم قراءة الجزء الاول من المقالات من هنا والجزء الثاني من هنا     

2 تعليقات

  1. تسلم إيدك على سلسلة المقالات الحلوة دي
    :)
    تحياتي وتقديري

    ردحذف
  2. شكرا لك وشكرا لمرورك على المدونة

    ردحذف

رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته