تحت السيطرة

لا أتذكر أخر مرة استحوذ فيها مسلسل عربي على اهتمامي. لقد اتخذت قرارا قاطعا من سنوات عديدة بعدم  متابعة أي مسلسلات عربية بسبب  رداءتها وتكرار محتواها وامتلاءها بالكليشيهات والتمثيل المفتعل والمط والتطويل والميلودراما والوعظ والمباشرة في طرح القضايا,  ظللت متمسكة  بهذا القرار إلى أن شاهدت بالصدفة مقطعا من مسلسل تحت السيطرة وانجذبت لمتابعته رغم أنني لم أكن أعرف  أحدا من نجومه سوى نيللي كريم. شعرت انني أشاهد عملا مختلفا,   التصوير مبهر , التمثيل يخلو من الافتعال والمبالغة , الأحداث واقعية , الحوارات عميقة وقوية ,  الشخصيات حقيقية جدا من لحم ودم ترى مثلهم كل يوم في حياتك اليومية , ايقاع الأحداث سريع ومشوق, الموسيقى التصويرية جميلة و مستخدمة بعناية وحذر بحيث لا تقتحم كل مشهد كعادة الدراما المصرية.من الطريف أنني  أدمنت هذا المسلسل الذي يتحدث عن الإدمان, كنت أحمله من الانترنت تجنبا للاعلانات و أشاهد حلقتين أو ثلاثة  منه كل يوم  بدون أن أشعر بأي ملل, وبعد أن انتهى من مشاهدته أجد نفسي أفكر فيه, أحاول أن أخمن   ما سيحدث في الحلقة القادمة ,  أحلل أحداثه وشخصياته , أقارن بين المدمنين في المسلسل وبين حياة مدمنين رأيتهم في الواقع, أسأل نفسي ماذا كنت سأفعل لو كنت مكان مريم أو زوجة طارق أو أم هانيا  ؟ ماذا لو اكتشفت أنني  تزوجت مدمن هل سأدعمه أم سأخاف منه ؟   وهل يحق للمجتمع أن يعاقب الإنسان على أخطائه السابقة حتى لو تاب عنها ؟ و  هل إدمان الأشخاص والأماكن والسلوكيات  أكثر خطورة من إدمان المواد المخدرة ؟  وهل الكبرياء بإمكانه أن يدمر الحب ؟ المشاكل التي يطرحها المسلسل جادة جدا, ولكن من ذكاء صناع العمل أنهم وضعوها  في قالب رومانسي ليخففوا من حدتها قليلا  وبدأوا سرد الأحداث في الحلقات الأولى بطريقة هادئة ولطيفة. لكن مع مرور الحلقات وتصاعد الأحداث والصراع بين الأبطال وانحدارهم إلى هاوية المخدرات تزداد مآسي الأبطال وتحول  المسلسل إلى  مليو دراما ثقيلة مؤلمة  تتلاعب بعواطف المشاهد وتضغط على أعصابه  وتجبره على البكاء , شعرت أن الحلقات العشر الأخيرة أقل في المستوى من الحلقات الأولى , بعض الأحداث تم إقحامها  من أجل زيادة عدد الحلقات ,بعض مشاهد التعاطي جاءت مكررة ,  التحولات الدرامية لبعض الشخصيات خاصة شخصية حاتم وطارق جاءت سريعة ومبالغ فيها وغير منطقية , كما أن جرعة الكآبة والوجع والألم في الحلقات الأخيرة كانت عالية جدا و زائدة  لدرجة انني  تجنبت بعض المشاهد التي رأيتها موجعة و ثقيلة على نفسي , ورغم ذلك  لم أستطع التوقف تماما عن متابعته لأنني ارتبطت بأبطاله, عندما جاءت الحلقة الأخيرة تمنيت أن تنقشع غيمة الكآبة في المسلسل ويظهر أي بصيص من الأمل  للأبطال, هذا ما حدث  في المشاهد الأخيرة  وبالتحديد في المشهد الذي ظهر فيه الفنان القدير ماجد الكدواني في مشهد قوي جسد فيه دور مدمن متعافي تحدث مع تجربته مع الإدمان وكيف ولماذا توقف عن التعاطي, هذا المشهد لخص هدف المسلسل بشكل مباشر  جدا,هذه المباشرة ربما أضعفت رسالة المسلسل قليلا وحولته إلى إعلان دعائي طويل عن خطورة الإدمان وطرق العلاج منه ولكنها على الجانب الأخر أثبتت ان المسلسل لا يهدف  كما يقال  إلى الترويج للإدمان, إنه يهدف إلى دق ناقوس الخطر و إيقاظ المدمنين الذي يعتقدون أن قادرين على السيطرة على حياتهم وهم في الحقيقة عبيد للمادة التي يتعاطونها  , قد يتساءل البعض لماذا حظى مسلسل تحت السيطرة بهذا كل الاهتمام والنجاح والجدل رغم أن  شخصية المدمن ليست جديدة على الدراما  المصرية,المشكلة أن أغلب المسلسلات والأفلام المصرية اعتادت أن  تصور المدمن بطريقين : الطريقة الأولى كوميدية تظهره  كأنه شخص خفيف الظل من أصحاب المزاج العالي , الطريقة الثانية الدرامية تظهره على انه مجرم يجب حماية المجتمع منه , تحت السيطرة  هو أول عمل درامي يصور المدمن بشكل واقعي ودقيق وعلمي وأول عمل يجرؤ على دحض الخرافات الشائعة عن الادمان ويصور المدمن على حقيقته  , انه  ليس مجرم , انه مريض , مريض يعيش في حالة إنكار كبرى  لحقيقة مرضه , مريض يمكنه أن يدمر نفسه  و كل من حوله بسهولة إذا لم يقتنع بضرورة العلاج  , مريض يحتاج الى  الدعم والمساعدة وإعادة التأهيل ,يحتاج الغفران والتسامح والرحمة وليس العقاب والقسوة والتجاهل  , هذا  أول عمل درامي يتحدث  عن خفايا مصحات علاج الإدمان  وأعراض الادمان والانسحاب واجتماعات زمالة المدمنين المجهولين وبرنامج 12 خطوة  ومعاناة أهالي المدمنين وزوجاتهم, والصراع العنيف الذي يدور داخل المدمن  بين الرغبة في التوقف والاستمرار في التعاطي والثمن الفادح الذي يدفعه نتيجة دخوله في دائرة الادمان خاصة لو كان المدمن امرأة, هناك من يدعي أن المسلسل مقتبس من الرواية الشهيرة ربع جرام, الحقيقة أن العملين يطرحان الموضوع نفسه ولكن لا يوجد تشابه بين الرواية والمسلسل في الأحداث أو في الشخصيات , بل أنني أرى أن المسلسل طرح قضية الإدمان بشكل أفضل وأكثر عمقا وتعقيدا من الرواية مع احترامي لكاتبها.لا أعتقد أن نظرة المجتمع للمدمن ستتغير  تماما بعد مشاهدة هذا المسلسل لأن المعتقدات الراسخة في عقول العامة  أقوى من أن يغيرها مسلسل واحد  مهما كانت قوته أو مستواه الفني , ولكني أعتقد أن هذا المسلسل فعل افضل شيء  يمكن أن  تفعله الدراما ,لقد فتح باب المناقشة عن مشكلة الإدمان التي   نصر دائما على إنكارها  وتجاهلها , ربما لأننا  نريد أن نقنع أنفسنا أنه مجتمع متدين لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه , وربما لأننا نعتقد أن التجاهل سيقلل من وجود المشكلة ولكنه في الحقيقة يؤدي إلى تفاقمها.إذا كنت تعاني من الاكتئاب و تريد أن ترفه عن نفسك أو تقضي وقتا لطيفا و تنسى همومك ابتعد عن هذا المسلسل , أما إذا كنت تريد أن تعرف ما هو الإدمان وما هي أعراضه وكيف ولماذا ينزلق الإنسان إليه ويقع تحت سيطرته ولا يستطيع الهروب منه بسهولة, فلابد أن تشاهد هذا المسلسل.


0 تعليقات