ذات يوم كنت أتصفح جرائد الصباح فوقعت عيني على خبرًا غريبًا في صفحة الحوادث. أعدت قراءة الخبر عدة مرات وأنا في حالة عارمة من الدهشة حتى أتأكد من صحة الأسماء والوقائع، وبعد أن زالت دهشتي رأيت في مخيلتي هذا الحدث الذي عشته من عشرين عامًا كأنني عشته بالأمس.

 كان يوم الجمعة هو اليوم الوحيد الذي أعلن فيه شتاء القاهرة الدافئ عن تمرده   فتساقطت الأمطار بقوة كافية لإخلاء الشارع من المارة، ورغم ذلك أصرت أمي على اصطحابي معها إلى منزل سيد الجن.
رضخت لإلحاحها وارتديت ملابس ثقيلة وخرجت معها   وقلبي يرتجف خوفًا.
 كان سبب خوفي من مقابلة سيد الجن هو الحكايات التي سمعتها من أمي عنه.
الجن ليس لقبه الحقيقي وإنما هو اسم شهرة أكتسبه بسبب ما يقوله الناس عن أن أحد ملوك الجن الكبار يسكن روحه وهو الذي يعطيه النبوءات العجيبة التي يعطيها للناس.
كل من زار هذا الرجل أكد أن لديه قدرة عجيبة وفريدة على التنبؤ بالمستقبل.
 كل نبوءاته تحققت بالضبط كأنه يملك كتاب الغيب، وكل أحجبة الحظ التي صنعها للمرضي والفقراء والمنحوسين كانت تحول حياتهم إلى الأفضل وتزيل كل مشاكلهم بطريقة سحرية.
  أخبرتني أمي أن هناك بائعًا فقيرًا تنبأ له سيد الجن بالثراء الفاحش فتحول إلى رجل أعمال ثري، وهناك طالب ريفي فقير تنبأ له سيد بأنه سيتحكم في مصير عدد كبير من الناس فصار وزيرًا.
كل هذه النبوءات المتحققة جعلت الناس تؤمن بقدرات سيد الجن المتفردة الخارقة فأصبح العراف الأول في مصر، ووصلت شهرته إلى الدول العربية فأصبح يأتيه أمراء من الخليج ليأخذون مسحة من علمه وموهبته.
 بعد أن قضت أمي عامين تدخر من مصروفها لتوفر المئة جنيه أتعاب سيد   اتصلت بمدير أعماله فأعطاها موعدًا بعد شهر ، وطبعًا كان من المستحيل أن تدع الأمطار تمنعها من الذهاب.
أنزلنا الأتوبيس الوحيد الذي كان يسير في ذلك الوقت في شارع جانبي ضيق فوجدنا أنفسنا أمام عمارة قديمة متهالكة.
  عندما دخلت شقة سيد الجن تضخم الخوف داخلي.
رأيت جدران متصدعة حولها الغبار إلى لون أزرق داكن كريه، وأثاث قديم متسخ لدرجة يصعب معها معرفة لونه الأصلي.
جلسنا في الصالة مع ثلاث سيدات ورجل عجوز أمام حجرة كبيرة مغلقة، فجأة فُتحت الحجرة وخرج منها سيدة ورجل في منتصف العمر، وعندها نادي المساعد على أمي وقفت وأشارت لي بعينيها لكي أقوم فقمت مسرعا ورائها، وأنا أحاول مقاومة الرجفة التي تسري في جسدي كالتيار كهربائي.
 دخلت فوجدت حجرة كبيرة   تغشاها طبقة رقيقة من البخور، وتتناثر على جدرانها الآيات القرآنية. رأيت رجلًا في منتصف العمر يذخر شعره بالخصلات البيضاء و يرتدي جلبابا بنيًا داكنًا، وفوقه عباءة سوداء فاخرة.
كان يجلس على أريكة واسعة ويمرر أصابعه فوق مسبحة رفيعة، ولسانه يتحرك بكلام مبهم وتطل من عينيه نظرة هادئة غامضة.
 ألقت أمي التحية عليه كأنه ولي من أولياء الله الصالحين، فرد عليها بامتنان وسمح لنا بالجلوس.
هتفت أمي بحماس:
-لقد سمعت الكثير عن بركاتك العظيمة
رد عليها بتواضع مصطنع " كله من فضل الله " ثم سألها" ماذا تريدين"؟
ردت بحماس أكبر:
- أريد أن أعرف ماذا يخبئ المستقبل لي ولزوجي ولأولادي، وأتمنى أن تصنع لنا حجاب الحظ.
نظر إليها بصرامة محتجًا:
-لكن حجاب الحظ ليس لأي أحد، إنني أخصصه لمن أرى فيه علامات الذكاء والنبوغ، سأقرأ المكتوب ثم سأخبرك   إذا كان أي من أسرتك يستحق حجاب الحظ.
نظر سيد لوجه أمي نظرة ثاقبة ثم أغمض عينيه لثوان كأنه يريد أن يركز فيما سيقوله وبعد أن فتحها أخبر أمي   أسرارا عن نفسها وطفولتها فنظرت له باندهاش وصاحت:
-الله أكبر بركاتك يا شيخ سيد، كيف عرفت كل هذه المعلومات عني؟
تجاهلها تمامًا ورمقتني بنظرة حادة نفذت إلى قلبي وجعلتني أرتجف رعبًا ثم نظر لأمي قائلاَ:
-ألف مبروك، سأصنع لابنك حجاب الحظ.
-هل معنى ذلك أن مستقبله مبشر؟
-نعم، ابنك يمتلك ذكاءًا خارقًا وحجاب الحظ سيمنع عنه النحس والشر وسيفتح له طريق النجاح
قفز قلبي من ضلوعي من فرط السعادة   ثم تجرأت وسألته:
-       إذن ماذا سأعمل عندما أكبر ؟
رد علي بثقة كأنه يتكلم عن شيء حدث بالفعل وقال لي:
  - ستكون طبيبا كبيرا مشهورا وستحصل على جوائز كثيرة.
دس الشيخ سيد يده في جلبابه ثم أعطاني ورقة صفراء مطوية وقال لي بلهجة آمرة:
- لا تدع هذا الحجاب يفارقك حتى يكون النجاح حليفك الدائم.
نفذت أمره ووضعت الحجاب في جيبي ومن يومها اتخذت حياتي طريقًا مغايرًا.
 فبعد  أن كنت أقضي  ساعات طويلة في الدراسة أصبحت أفهم الدروس بسرعة شديدة ،وبعد أن كنت أحصل  على درجات عادية أصبح الحصول على  الدرجات النهائية شيء في منتهى السهولة بالنسبة لي،  وبعد أن كنت أشعر بالملل والخواء و لا أعرف الإجابة عن سؤال ماذا تريد أن تعمل عندما تكبر أصبح هدفي هو أن  أكون طبيبًا   وأصبحت متفائلا ومتحمسًا  لكل شيء في الحياة، وبعد أن كانت أمي لا تهتم بدراستي أصبحت تسأل عن أحوالي في المدرسة يوميًا وتتباهى أمام الجيران والأقارب بتفوقي  ولكنها أخفت عن الجميع  النبوءة وأمرتني أن أخفيها درءًا  للحسد.
استمر تفوقي حتى التحقت بكلية الطب وبعد تخرجي   سافرت عن طريق منحة لإكمال دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية حتى نجحت في الحصول على الدكتوراة ثم تمكنت من الحصول على جوائز علمية   كثيرة شكرت أثناء استلامها العديد من الناس ما عدا الرجل الوحيد الذي كنت أفكر فيه كلما صعدت درجة جديدة في طريق النجاح. كنت اعتقد حقا أن هذا الرجل له الفضل الأكبر في نجاحي حتى قرأت أنه تم القبض بتهمة ممارسة الدجل والشعوذة.
كشفت تحقيقات الشرطة أن سيد ليس من أولياء الله الصالحين كما كان يدعي وأنه كان يستعين بعدد كبير من المساعدين ليتعرفوا على الناس الذين سيذهبون إليه لقراءة مستقبلهم، فيتسللون في الخفاء إلى أماكن سكنهم  لمعرفة أدق تفاصيل حياتهم، ومن خلال هذه المعلومات يتمكن سيد من إدهاش زبائنه والتنبؤ بمستقبلهم.
أحدثت   قراءتي لهذا الخبر زلزالا داخل عقلي جعلني أعيد التفكير في أشياء كنت أعتقد أنها من المسلمات، دسست يدي في جيبي وأخرجت الحجاب وأخذت أتحسسه ثم قررت أن أفتحه لكي أكشف سره.
اكتشفت أنه يحتوى على   مجموعة أشكال هندسية مرسومة بالقلم الأسود الجاف فانفجرت ضاحكًا، وقررت أن ألقيه في القمامة، ولكن قبل أن أنفذ قراري تملكني شعور مفاجئ بالانقباض والخوف فطويت الحجاب، وددسته في جيبي و قررت أن أنسى أنني  قرأت  هذا الخبر .

 

0 تعليقات