فن ترويض الشعوب
فن ترويض الشعوب
كيف استطاعت أن الأنظمة الديكتاتورية القمعية أن تستمر في حكم الدول العربية حتى الآن رغم
أنها لم تجلب لتلك الدول سوى التخلف والفقر والدمار والجهل والاستنزاف لموارد
وطاقات الشعوب العربية ؟ ولماذا فشل المواطنون العرب في الثورة على تلك الأنظمة بل أنهم خاضعين لها تماما راضين بالذل والظلم والمهانة ,بل إن بعضهم صاروا يعشقون حكامهم الطغاة ويدافعون عنهم
ويتغنون بأمجادهم ويبكون عليهم ؟
لطالما حيرتني تلك الأسئلة ولكني وجدت
الإجابات عليها في كتاب شديد الأهمية لعالم
الاجتماع اللبناني الدكتور مصطفى حجازي بعنوان الإنسان المهدور – دراسة تحليلية
نفسية اجتماعية.
الكتاب صدر عام 2006 عن دار الكتاب العربي ولقد قدم الدكتور مصطفى
حجازي في هذا الكتاب المهم دراسة عن الهدر الذي يحدث يوميا في الدول العربية بداية
من هدر الدم حتى هدر الوقت وهدر الطاقات والإبداع وهدر الإنسان نفسه بعدم الاعتراف
بوجوده وبإنسانيته, الكتاب يعري الأنظمة السياسية العربية ويكشف الآليات النفسية
التي تستخدمها تلك الأنظمة لكي تتحكم في
المواطنين وتروضهم وتحولهم إلى
حيوانات داجنة لا تستطيع الخروج من الحظيرة و الحصول على الحرية.
وفقا للكتاب فإن ترويض الشعوب العربية يتم عن استخدام نظريات علم النفس اهمها نظرية الاقتران الشرطي الذي توصل إليه العالم بافلوف
عن طريق تجربته الشهيرة مع الكلب الذي جعله يربط الطعام بصوت الجرس حتى أن لعابه
يسيل بمجرد أن يسمع صوت الجرس , والشرط
الإجرائي الذي طوره العالم سكنر والذي ينص على أن السلوك تحكمه توابعه أو نتائجه,
وعليه فإذا أردت أن تتحكم بسلوك فما عليك إلا التحكم بنتائجه وإذا أردت لسلوك ما
أن يتكررعليك أن تجعله يؤدي إلى نتيجة إيجابية, وإذا أردت أن توقف سلوكا ما أو
تطفئه ما عليك إلا أن تجعله لا يؤدي إلى أي
نتيجة أو أشد من ذلك أن يؤدي إلى نتيجة سيئة أو مؤلمة أو مكلفة. هناك عدة
أساليب يتم من خلالها استخدامها هذه التقنيات النفسية المعقدة.
1- الترهيب والتخويف
الخوف هو الشعور الدائم الغالب على المواطن
العربي, الخوف من الفقر والمجهول و المستقبل, ولكن خوفه الاكبر مصدره هو النظام
الحاكم, خوف المواطن العربي من النظام يصل إلى درجة الرعب, انه يكره النظام بشدة
ولكنه لا يستطيع أن يتمرد عليه بل لا يستطيع حتى أن يعبر عن كراهيته له على العلن لأنه
يعلم جيدا عواقب هذا التمرد, ولكن كيف يجعل النظام من المواطن هذا الكائن الخائف
الخاضع المستسلم لمصيره البائس ؟. يوضح لنا الدكتور حجازي كيف يتم استخدام الاقتران الشرطي من أجل ترهيب
وردع المواطنين.
أولى حالات الاقتران الشرطي تتمثل في الربط بين العقاب الصارم الصاعق الذي لا راد له وبين أي سلوك أو فعل يمكن أن ينال من سلطة المستبد أو يهدد استتبابها, وحتى يتم هذا الاقتران الشرطي يتعين أن يكون رد فعل السلطة حتميا وصاعقا ولا مفر منه, ذلك أن القوة الرادعة لا تكمن فقط في شدتها وقسوتها بل لابد أن تكون محتومة ولا مفر منها بحيث تصبح كالقضاء الذي لا راد له ولا لطف فيه, وبعد ذلك يتعلم الإنسان أن يرتدع ذاتيا ويضبط سلوكه هو نفسه حين يجد أن سلوكه أو تصرفه أو حتى ميله أو فكره ذو كلفة تكاد تكون كارثية , فيتحول إلى رقيب على ذاته حتى يأمن سوء العاقبة يقوم الاقتران الشرطي وما يؤدي إليه من ردع السلوك وإيقاف للتفكير على مبدأ في فعل يتمثل في سلوكيات وأفكار التمرد والاحتجاج تتولاه أجهزة أمن المستبد وتتمثل في حالات الترويع والعقوبات القاصمة. ويصل المستبد إلى إصابة الناس الإنسان بحالة استسلام تام وتبلد شديد وانعدام رد الفعل.
هذا المقطع يجعلنا ندرك سبب وحشية الشرطة في التعامل مع المتظاهرين
السلميين ؟ ولماذا يقوم الحكام العرب
بتصفية معارضيهم جسديا باستخدام الكيماويات او اعدامهم شنقا أو دفنهم في الصحراء
أحياء ؟ ولماذا لا يكتفون بتعذيب المعارضين أو التنكيل بهم بأبشع وأقسى الطرق بل قد يلجئون إلى
تعذيب ذويهم واغتصاب زوجاتهم وأمهاتهم أمام عيونهم؟
الأنظمة العربية لا تستطيع أن تتعامل مع المعارضة برفق ولا نعومة ,لابد تستخدم أسلوب وحشي شديد القسوة يقوم بسحق المعارض
والقضاء عليه تماما حتى تلقي الرعب في نفس
كل من تسول له نفسه التفكير في التمرد , وبهذا يبقى المواطن العادي في حالة خوف من
مجرد التفكير في التمرد.
2-الترغيب والتحكم الناعم:
الأنظمة العربية لا تستطيع أن تستخدم العصا وحدها لكي تحكم المواطنين وترهبهم, لابد أن تستخدم معها الجزرة
والجزرة هي الترغيب والتحكم الناعم الذكي الذي يقرب المواطن من النظام الحاكم , و
يتخذ مظهر الحرية بينما يبقي على جوهر الاستبداد كما يشرح لنا الكتاب.
ليست ثمة إخضاع كامل كالإخضاع الذي يحفظ مظهر
الحرية, لأن المرء بتلك الطريقة
يأسر الإرادة ذاتها, في التحكم الناعم يكون بمقدور المتسلط التأثير على الناس كما يشتهي.
في عملهم ولعبهم وأفراحهم وأتراحهم كلها بين
يديه بشكل خفي, هنا يترك المستبد ذو القبضة الفولاذية التي تلبس قفازا مخمليا
الناس
يعتقدون أنهم يملكون الإرادة في عمل ما يريدون إلا أنه ينبغي أن يعملوا إلا ما يريده هو, إذ ينبغي ألا تصدر عنهم سلوكيات أو خطوات لا
يتوقعها حتى أنهم ينبغي ألا يفتحوا أفواههم دون أن يكونوا على علم بما سيقولون, تلك
هي قمة التحكم الذي يتحكم بزينة الديمقراطية والهيئات التمثيلية واللجان الممسوكة
جيدا.
هذا المقطع يفسر لنا حرص الحكام العرب على إقامة انتخابات رئاسية رغم أن نتائج
الانتخابات عادة ما تكون 99 في المائة, ولماذا تقام الانتخابات البرلمانية رغم أن
كل المشاركين فيها عادة ما يكونون من الأحزاب الكرتونية التي يرعاها النظام الحاكم
كما أن مجالس نواب لا تستطيع ممارسة سلطاتها فعليا ولا إصدار أي قانون إلا بإذن الحاكم,
إنها لا تفعل شيئا سوى إسباغ صورة متحضرة عصرية على أنظمة استبدادية قمعية وإيهام
المواطنين بأنهم يعيشون في ظل نظام ديمقراطي حر في حين أن الحقيقة عكس ذلك تماما.
3- التفخيم والتجميل:
يجد المواطن العربي نفسه مضطرا لطاعة الحاكم والخضوع التام له حتى يستطيع أن
يحافظ على حياته, ولكن في كثير من الأحيان يتحول
هذا الخضوع إلى حب وتبجيل وتقديس وهذا الحب يزرعه الحاكم في قلوب الشعب من خلال الاحتفالات
والأعياد الوطنية كما يوضح لنا الكتاب.
كثرة الاحتفالات والأعياد الوطنية التي تعوض عن سلبيات الحال وتنسي الناس ما هم ضحايا له من قهر كما أنها تخلق الشعور بالهوية والانتماء والاعتزاز بها, تتم عملية مبرمجة ومشغولة بمهارة من الاقتران الشرطي بين المستبد والاحتفالات الوطنية, من خلال هذا الحضور الكثيف بصوره وشاراته خلال الاحتفالات حيث تكثر الزينة وترفرف الأعلام وتتعدد اليافطات, يصبح المستبد هو الوطن والوطن هو المستبد , إننا بإزاء عملية سطو على الهوية الوطنية وذاكرة الجماعة ورموزها وشاراتها وأعلامها واستخدامها في خدمة المستبد
هذا المقطع يجعلنا نفهم لنا لماذا تكثر الاحتفالات الوطنية ولماذا تعرض صورة الحاكم دائما مع الأغاني الوطنية؟. هذا الأمر الغرض منه
ربط الحاكم بالوطن في أذهان الناس حتى يصبح هو والوطن شيء واحد , لذلك ليس من
العجيب أن تجد أشخاصا يهاجمون المعارضين ويتهمونهم بالعمالة وكراهية الوطن لأن مفهوم الوطن بالنسبة لهم تم اختصاره
واختزاله في شخص الحاكم. يشرح الكتاب لنا
أيضا كيف يقوم الحاكم بالتحكم بالعقول والتلاعب بها في وسائل الاعلام حتى يجبر
الناس على احترامه وتبجيله.
يحتل المستبد بصوره وشعاراته التي ترفع في تمجيده والكتابات والتهاني كما نشرات الأخبار المسموع والمرئي والحيز الإدراكي
للناس, ويظهر بصورة متنوعة وضيع مختلفة لكي يشد الانتباه ويلفت النظر فمرة تراه في
بزة المارشال ومرة في بزة الطيار ومرة على صهوة الحصان كما يظهر في اللافتات والملصقات
التي تملأ الطرق والساحات, يضاف إلى ذلك اللعب على العلاقة المكانية فهذه الصور لا
توضع في أي مكان ولكنها توضع في مكان أعلى من المشاهد بحيث تصبح العلاقة فوقية
دونية, على أن هناك آلية إضافية يتم تشغيلها لزيادة تأثير السطو على المجال
الإدراكي وعلى الأذهان, إنها آلية حضور الرمز والشارات ومع الغياب الجسدي واللقاء
الفعلي وجها لوجه تتضخم صورة المستبد بقدر
فوقيته وتعاليه.
التقنيات والحيل النفسية التي يستخدمها الحكام العرب للتحكم في شعوبهم وتثبيت دعائم حكمهم شديد الذكاء وشديدة الخطورة كما أنها كثيرة جدا, ولكني اقتبست أهمها فقط حتى لا أطيل على القارئ. لن أبالغ إن قلت أن كتاب الإنسان المهدور ومعه سيكولوجية الانسان المقهور للدكتور مصطفى حجازي من أهم الكتب التي قرأتها في حياتي, أرى أن كل مواطن عربي لابد أن يقرأ هذين الكتابين لكي يفهم نفسه ويفهم طبيعة النظام الاستبدادي الذي يعيش فيه لعله يستيقظ من غفوته و يستطيع يوما ما أن يفك قيوده ويتحرر.
5 تعليقات
مرحبا
ردحذفمقالة غاية الواقعية
وضاربة في عمق الأسى كذالك
يشرفنا إنضمامك إلينا أيها القلم البارع
مرحبا بكم في حرم الحرف
للأدب عيون..وعيونه أنتم وأقلامكم
الدعوة قائمة لـــ كل محب ومريد لتحرر من قيود الواقع إلى خيال اللغة وإبداعاتها
http://www.ataruk.com
اشكرك واهلا وسهلا بك في المدونة دائما
حذفأفادتني هذه المراجعة كثيرا شكرا لكِ
ردحذفانت اكثر من رائعة وقد وافقتى بهذة المقالة ما ابحث عنه ...... لانى باحث دكتوراة فى السياسة الشرعية واحضر لموضوع اخترت اسمه قبل ان اقرأ مقالتك هذه وهو ترويض الشعوب ... وبحثت من كتب فيه ووجدت مقالتك فأنت افضل من كتب فى هذا الموضوع ..... اسمحى لى ان اجعل مقالتك مرجعا والكتب التى ذكرتيها ..... ولك منى كل التقدير والاحترام والامتنان .... اكثر الله من امثالك ...... انت رائعة استمرى
ردحذفشكرا لك بالطبع يمكنك استخدام المقالة لمرجع ومن الافضل الرجوع لكتاب سيكولوجية الانسان المهدور لأني استقيت المقالة منه
حذفرأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته