جلس الأستاذ حمزة في استديو البرنامج التليفزيوني الشهير بجوار مجموعة من الموظفين الحكوميين متأهباً في انتظار وصول مقدم البرنامج، صوب بصره على الكاميرات بينما أخذ يهز ركبتيه بقلق. 
حاول أن يخفف من حدة توتره بالتفكير في الإجابات التي سوف يقدمها على الأسئلة المحتملة، بعد أن وصل مقدم البرنامج وانطلق التصوير عاد القلق ليستولي على حمزة مجددًا، تطايرت الكلمات التي أعدها من ذهنه وأحس أن عقله مثل الصفحة الفارغة.
  ابتسم المذيع الشهير له وطلب منه الحديث عن الإنجازات التي تحققت في الهيئة الحكومية التي يعمل فيها رئيس حسابات.
 عندما سمع حمزة كلمة إنجازات، توهجت عينيه ببريق خاطف وكأن كلمة انجازات تعويذة سحرية فتحت فجأة باب ذاكرته، انبسطت أساريره وانطلق يتحدث بحماس عن ارتفاع أرقام المبيعات وعمل اتفاقيات شراكة مع هيئات في عدة دول أفريقية، وتحسين الخدمة المقدمة للمواطن. 
كل هذه الإنجازات الكبرى لم تكن لتتم بالطبع لولا القيادة الحكيمة المتمثلة في رئيس الهيئة.
سأله المذيع:
- وما رأيك كمواطن في الإنجازات التي تمت في العهد الجديد؟
أخفى ارتباكه بابتسامة عريضة ثم رد بنفس الحماس:
 -هذه الإنجازات أكبر من أن أتحدث عنها، هذه الإنجازات سوف يتحدث عنها التاريخ ويكتبها بحروف من ذهب، يكفي أننا صرنا نعيش في أمان وسعادة لم نعهدها من قبل، وقد ارتفعت أجورنا والحمد لله  صرنا نعيش في رخاء.
أرسل له المذيع ابتسامة ماكرة ثم سأله:
-ولكن المواطنون البسطاء يشكون من الغلاء وارتفاع تكاليف المعيشة؟
رد بحزم:
-لابد أن نحتمل هذا الغلاء ونحمد الله لأن كل السلع متوافرة بكثرة ونصبر ونؤمن أن القادم أفضل ونثق أن القيادة الحكيمة تعمل لمصلحة الوطن.
- وماذا عن المطالبين بالحرية والديمقراطية؟
- إنهم مخربون وعملاء ومتآمرون يختبئون وراء شعارات زائفة لهدم الوطن ونشر الفوضى، والحمد لله  أنهم صاروا وراء القضبان، وأنا أرى أنهم يستحقون الإعدام جزاءً لهم على خيانتهم عسى الله أن يحفظنا منهم ويحمينا من شرورهم.
رد الأستاذ حمزة على أسئلة المذيع بدون أن يفكر بنبرة صارمة، بينما كان وجهه ينتفخ ويحمر ويتصبب العرق من رأسه الخالي من الشعر ليسقط على جبهته العريضة كأنه حبات من الخرز.
أشار له المذيع بيده ليتوقف عن الكلام، ثم انتقل إلى زملائه وطلب أن يسمح آرائهم فتلقى منهم نفس الإجابات. 
بعد انتهاء التصوير تطلع إليه المذيع بفخر وامتنان كأنه أستاذ فخور بتلميذه النجيب الذي استطاع اجتياز الامتحان، صافحه وهنأه على وطنيته وفصاحته. شعر حمزة بالانتشاء واطمئن أنه أدى دوره كما ينبغي عندما تلقى مكالمة هاتفية من مديره ليشكره لأنه رفع رأس الهيئة، أكد له أن رئيس الهيئة سيكافئه ويعطيه العلاوة التي وعده بها الشهر القادم.
بعد خروج حمزة من القناة انتظر في المحطة بضعة دقائق حتى جاء اتوبيس النقل العام محملًا بالركاب، لم يجد لنفسه مكانًا داخل الاتوبيس فاضطر أن يقف على السلم متشبثًا بظهر شاب ضخم مفتول العضلات.
أخذ الاتوبيس يشق الطريق بصعوبة في الزحام بينما كان حمزة يئن من الألم الذي يسري في عموده الفقري كالتيار الكهربائي.
بعد ساعة طويلة من الوقوف وصل أخيرًا إلى الحي الشعبي الذي يسكنه من سنوات عديدة مع زوجته حنان وطفله الوحيد يوسف. وضع يده فوق أنفه ثم وضع قدميه على لوحة خشبية طويلة وضعها سكان الحي لتفادي السير فوق مياه المجاري التي أغرقت الشارع بعد انفجار ماسورة الصرف الصحي من أيام.
توقع حمزة أن تحتفل حنان بظهوره التليفزيوني، ولكنه بعد أن دخل الشقة فوجئ بها تجلس في الصالة واضعة يديها فوق فكها الأيسر وتئن بصوت خفيض، سألها عما حل بها، فأخبرته أنها تعاني من ألم عنيف في ضرسها، وأنها تريد منه 200 جنية حتى تذهب للعيادة الطبية الخيرية التابعة للمسجد القريب منهم.
تحِول وجهه المنهك إلى جمرة مشتعلة وصاح فيها مستنكرًا:" أنا لست صاحب بنك وإن اعطيتك ما تطلبين فلن يتبقى لنا نقود ننفقها بقية الشهر، انتظري حتى أول الشهر حتى أحصل على العلاوة التي وعدني بها رئيسي".
ردت عليه بحنق:" لكني لن أستطيع الانتظار حتى أول الشهر، إنني لم أستطع النوم من الألم".
رد عليها مزمجرًا: " أنا أيضا اعاني من آلام حادة في ظهري من شهر ولم اشكو مرة واحدة، فلماذا لا تحتملي مثلي حتى نستطيع أن نعيش. اصبري حتى تأتي العلاوة التي وعدني بها المدير.
تركها مستاءة ودخل حجرة النوم، خلع ملابسه على عجل وتهالك فوق الفراش ودثر نفسه باللحاف وسرعان ما غاص في نوم عميق. 
رأى نفسه يدخل مطعمًا فاخرًا يمتلئ بطاولات ومقاعد كبيرة فارغة، يشع من أركانه ضوءًا أبيض وتنساب فيه موسيقى هادئة، ما أن اقترب من إحدى الطاولات حتى ظهر أمامه فجأة شابًا أسمر شديد النحافة، شعره أسود مجعد، يمتد فوق فمه شارب رفيع  مثل الخط الأسود.  كان يرتدي زي النادل المكون من قميص أبيض وبنطلون أسود.
 رحب الشاب بقدومه بابتسامة هادئة وأخبره أنه كان ينتظره من زمن طويل ثم دعاه للجلوس على مقعد ضخم وثير وسأله عن طلباته. أخبره حمزة أنه يريد تناول وجبة جديدة لم يذقها من قبل.
أومئ الشاب برأسه ثم اقتلع عينيه من محجريهما بسرعة ووضعهما فوق طبق أبيض واعطاهما له ووضع بجوار الطبق شوك وسكاكين ذهبية، شجعه أن يأكلهما مؤكدًا له أن سوف يجد طعهما لذيذ جدًا.
 فغر حمزة فاهه من الجزع عندما نظر لوجه الشاب فرأى دائرتين سوداوين كبيرتين مكان عينيه. سأله " لماذا فعلت ذلك؟", فرد له الشاب ببراءة " عيوني فداء لزبائني كما أنني لم أفقد بصري تماما، وأستطيع بسهولة أن أزرع فورًا عينين جديدتين لنفسي، أخرج من جيبه كرتين صغيرتين ثم ركبهما فوق الدائرتين السوداوين بسرعة فعاد يبصر من جديد. حثه على تناول عينيه قبل أن تبرد. وضع حمزة بعض الملح فوق العينين ثم أخذ السكينة وقطع بها العين من المنتصف، دس الشوكة في العين ثم ألقاها في فمه وأخذ يمضغها ببطء، كان اللحم جامدًا عسيرًا على المضغ وطعمه شديد المرارة. شجعه الشاب على تناول الماء حتى يستطيع ابتلاع العينين جيدًا، أحس بوجع شديد في معدته بعد انتهاءه من الوجبة، أخبر النادل انه لم يحب طعم عينيه فعرض عليه أن يجرب تناول عيون زملائه.
استيقظ حمزة من النوم وهو يغمغم في سره" أنا لا اريد أن أكل عينيك، العيون طعمهما مر، اعطني جزءَا آخر من جسدك".
أحس بعد انتهاء الكابوس الذي زاره في الليل بثقل في جسده واضطراب في معدته جعله لا يستطيع إكمال إفطاره.
حاول أن يتجاهل ما رآه في منامه وظن انها أضغاث أحلام ناتجة عن إرهاقه الشديد.
فوجئ حمزة بنفس الكابوس يزوره في الليالي التالية مع اختلاف بعض التفاصيل، رأى نفسه يجلس في المطعم ذاته ويقابل النادل النحيف ذو الابتسامة الهادئة الذي يعطيه عن طيب خاطر جزءًا مختلفًا من جسمه لكي يتعشى به. مرة يمنحه أصابعه ومرة أخرى يمنحه كبده وكليتيه ومرة يمنحه أذنيه. وفي كل مرة يجد طعم أعضاء جسده شديد المرارة ومع ذلك يصر أن يحصل على جزء آخر من جسده.
في أحد الكوابيس طلب من النادل أن يعطيه قلبه. رد عليه الشاب بالرفض لأنه لا يستطيع استبدال مخه وقلبه ولكنه يستطيع استبدال بقية أجزاء جسده بسهولة. هجم حمزة على النادل الشاب وحاول أن يفتح صدره وينتزع قلبه بالقوة من ضلوعه.
فوجئ بأصابع الشاب تتكور وتتضخم وينبت لها أسنان حادة تنهش ذراعه. أخذ يصيح حتى شعر بزوجته تهزه وتسأله عما حل به. فتح عينيه في فزع وطلب منها كوب ماء وأخبرها أنه رأى كابوسًا مخيفًا. ناولته الماء وسألته وهي تهتف خير اللهم ما اجعله خير عما رآه في منامه. رفض أن يفصح لها عن الحقيقة خوفًا من تحول الكابوس إلى فأل شوم عليه وعلى أسرته.
احتار حمزة في تفسير معنى هذا الكابوس الذي أصابه برعب يومي وأفسد عليه شهيته وجعله يخشى إغماض عينيه.
صحيح أنه يحب اللحوم ولكنه لم يفكر قط في تناول لحوم البشر كما أنه لا يميل إلى الشراهة في تناول الطعام. فكر في البحث عن تفسير لهذا الحلم لعله يكون رؤية أو رسالة إلهية. لم يجد أحدًا يفسر الأحلام سوى شيخ المسجد الذي يصلي فيه كل يوم.
جلس معه بعد صلاة العشاء وروى الكابوس بكل تفاصيله المفزعة. شعر بقليل من الراحة عندما أفصح للشيخ عن تفاصيل الكابوس التي يهاجمه في المنام يوميًا.
 بدا على الشيخ الامتعاض والخوف وهو يسمعه ثم سأله:
-هل رأيت الشاب الذي يظهر لك في الحلم من قبل في الواقع؟
-إطلاقًا.
- أخبرني بصراحة، هل تميل للغيبة والنميمة ؟
- أبدًا، إنني شخص قليل الكلام ولا اذكر الناس إلا بالخير.
- هل أنت مديون لأي أحد؟
نكس حمزة رأسه حرجًا وهو يقول له:
- للأسف نعم، لقد اضطررت للاقتراض أكثر من مرة من بعض أقاربي الميسورين لكي أسدد مصاريف مدرسة ابني، ومرة أخرى اضطررت الاقتراض لكي أدفع فواتير الكهرباء.
- وهل دفعت كل ديونك؟
- دفعت القليل منها وانتظر دفع الباقي بعد أن أحصل الشهر القادم على العلاوة التي انتظرها من فترة.
- انصحك ألا تتأخر في الدفع، فهذا الحلم معناه أن ضميرك يؤنبك وينبهك أن ديونك كثيرة، وهذا اللحم البشري الذي تأكله هو مال الآخرين.
- ولكنهم لم يشكوا من تأخري في الدفع لأنهم يعلمون صعوبة ظروفي المادية.
- ولو يا ابني، ربما يكونون بحاجة إلى نقودهم، لا تتأخر عن السداد وتوقف عن الاقتراض، فربما تموت فجأة قبل أن تسدد دينك ويصبح عبئا عليك يوم القيامة.
أومأ حمزة برأسه وشكر الشيخ على نصيحته ثم غادر المسجد. رغم اقتناع حمزة بتفسير الشيخ للكابوس الا انه استغرب أن ضميره يؤنبه فهو لا يفكر في تلك الديون إلا قليلًا. كما ان نصيحة الشيخ غير عملية بالنسبة له لأنه لم يعد قادرًا على تدبير مصاريف بيته بدون اقتراض، لقد تعلم أن يتعايش مع ديونه وألا يدعها تؤرق عليه حياته كما تعلم أقاربه الصبر عليه حين ميسرة. لكن ربما عليه أن يأخذ الأمر على محمل الجدية ويسدد كل ديونه حتى يتوقف الكابوس عن مهاجمته كل ليلة.
استبشر خيرًا عندما تطلع إلى نتيجة الحائط وأدرك أن أول الشهر غدًا، وهذا يعني أن العلاوة المنتظرة على وشك القدوم، وجيوبه الخاوية سوف تمتلئ بالنقود والكابوس الكريه سيغادر لياليه للأبد.
احتمل حمزة ليلة أخرى حملت له كابوسًا جديدًا رأى نفسه فيه يأكل جلد النادل الشاب، حاول أن يتناسى المشاهد المقززة التي رآها في منامه وذهب إلى عمله بكل همة في انتظار أن يحصل على مرتبه الجديد. فوجئ أن المرتب لم يزد عن الشهر الماضي فذهب إلى مديره ليسأله عن سبب تأخر العلاوة، أخبره الرجل آسفًا أن رئيس الهيئة قرر تأجيل كل العلاوات إلى أجل غير معلوم لأن ميزانية الهيئة لا تحتمل إضافة علاوات جديدة في الوقت الحالي. امتقع وجهه وغامت عيناه.
حاول أن يذكر المدير بوعده السابق بالعلاوة مقابل ظهوره في التليفزيون للحديث عن إنجازات الهيئة والمدح في القيادة الجديدة. أخبره المدير ببرود أنه لم يعده بشيء وأنه الذي تطوع للظهور وانه الذي طلب العلاوة، وكان بالفعل ينوي تلبيه طلبه لكن الأمر خارج عن إرادته، وعليه أن يطبق الكلام الذي قاله في التلفاز على نفسه ويصبر مثل بقية المواطنين ويثق في القيادة الحكيمة التي تعمل لمصلحة الوطن.
رد المدير ألجم حمزة وجعل لسانه يغوص في فكه، كان رد المدير صفعة كبرى لآماله، فشعر أنه يتهاوى ويسقط تحت الأرض وهو واقف في مكانه. أدار له ظهره وغادر مكتبه صامتًا.
ظل الصمت مخيما عليه بقية اليوم حتى جاء الليل الذي بات مصدر الخوف الأكبر في حياته. خشي أن يغمض عينيه حتى لا يرى نفس الكابوس فظل ساهرًا يقرأ القرآن في الصالة حتى الفجر، وبعد أن صلى الفجر غفا رغما عنه وهو جالس.
لأول مرة من أسبوعين لم يجد نفسه في المطعم الفاخر ولم يأكل لحم أو جلد بشري. أخذ قسطًا من النوم العميق الخالي من الكوابيس حتى صباح الجمعة عندما استيقظ على رنين هاتفه المحمول. أبلغه زميله بوفاة أحد زملائه في الشركة بنوبة قلبية مفاجئة، وأن جميع الموظفين في المكتب سوف يذهبون لحضور جنازته والصلاة على روحه في مسقط رأسه في إحدى القرى التابعة لمحافظة الجيزة وهو يريد أن يعرف إذا كان يريد الذهاب معهم. وافق حمزة فورًا على الذهاب مع زملائه لأداء واجبه نحو زميله المرحوم.
بعد أن انتهى حمزة من أداء الصلاة خرج من المسجد ووقف لينتظر زملائه بجوار العربة التي سوف تعود بهم إلى القاهرة، وبينما كان يتأمل بيوت القرية التي ينتمي لها زميله الراحل، لفت نظره لافتة كبيرة لونها أخضر باهت تتوسط الطريق العام وعليها صورة شاب أسمر نحيف، عندما اقترب من اللافتة وتأمل ملامح الشاب اصفر وجهه وجحظت عيناه كأنه رأى شبحًا. أدرك أنه النادل بطل الكابوس الذي عذبه على مدار الأيام الماضية، انه لم يكن من اختراع خياله.
 انه إنسان حقيقي من لحم ودم، صاحب ملامح طفولية وابتسامة بريئة، واللافتة التي تحمل صورته مكتوب عليها “شهيد الثورة عمرو محمد عبد الباسط، لن ننساك يا بطل الميدان يا صديق القرآن".

0 تعليقات