كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة مساءً عندما عاد القائد إلى قصره بعد غياب دام بضعة أيام، رحب به خادمه العجوز وهنأه على سلامته ودعا له بالصحة وطول العمر، شكره القائد وهو يحرك رأسه في زهو وخيلاء.
 سأله الخادم إذا كان يريد أن يتناول طعام العشاء فرفض بهدوء، انه ليس بحاجة إلى الطعام ولكنه بحاجة إلى أهم شيء حُرم منه الأيام الماضية، النوم.
لقد قضى الأيام الماضية في غرفة القيادة المركزية مع مساعديه يفكر، ويخطط، ويجهز ويعد ويأمر ويتابع تنفيذ أوامره حتى نجح في هزيمة أعداءه من المتمردين الذين خططوا سرا للانقلاب عليه، ولكنه تمكن من خلال ذكائه وحنكته أن يسبقهم بخطوات. عرف موعد تحركهم، وقبل لحظة الصفر قبض على زعمائهم ثم أمر بإعدامهم شنقًا على العلن حتى يكون موتهم السريع درسًا قاسيًا لمن يفكر في الانشقاق عنه أو مخالفة أوامره.
أخيرًا، استطاع أن يزيح جميع الأحجار التي كانت تحاول إعاقة مسيرته وأطاح بكل الرؤوس الشاهقة التي كانت تتحداه، وقضى على كل مصادر القلق والتوتر التي كانت تقض مضجعه.
 نشوة الانتصار جعلته يصعد على السلالم الرخامية المؤدية إلى غرفة نومه بخطوات سريعة رشيقة. ضغط على زر الإضاءة لينير غرفة نومه الفخمة، غير ملابسه وارتدى بيجامته القطنية الفضفاضة، وقبل أن يخلد للنوم أطل برأسه من شباك غرفته على الشارع.
الطقس صحو، والسكون يعم الأرجاء، والظلام الحالك يغشى الشوارع.
توقد داخله الاحساس بالأهمية والقوة. هذه الشوارع ملكه بل إن الدولة كلها ملكه وكل شيء فيها طوع بنانه وكل شخص في المدينة رهن إشارته، وكل أحلامه ستتحقق بمجرد أن يفكر فيها وأوامره سوف تنفذ قبل أن ينطق بها. وقريبًا سيصير العالم كله ملكا له وسيخلده التاريخ كأعظم وأهم قائد على مر الزمان.
كل ما خطط له صار واقعًا وكل ما يتمناه يتحقق كما يريد بالضبط كأن الدنيا خٌلقت من أجله. ليس هناك شيء بعد الآن بإمكانه أن يضايقه أو يزعجه.
أحس بثقل في جفونه فأدرك أن موعد النوم قد حان، القائد العظيم بحاجة الى استراحة قصيرة قبل أن يواصل مسيرته ويبني طريق مجده.
أغلق شباك غرفته وأطفئ ضوء الغرفة ثم استلقى فوق فراشه الوثير، أخذ يتحسس الملمس الناعم لغطائه المصنوع من الحرير. ترك جسده يتمدد لأقصى درجة فوق الفراش، أغمض عينيه واستسلم للسكون المحيط به.
لم يكن هناك شيء يتحرك في الغرفة سوى صوت أنفاسه وصوت عقارب الساعة. ولكن بعد دقائق قليلة انضم إليهم صوتا آخر، صوت ضئيل غير واضح المعالم يشبه صفير قطار قادم من بعيد لذلك لم ينتبه القائد إليه في البداية. 
ززز
الصوت يتصاعد ويقترب من أذنيه.
 انه ليس صوت صفير قطار، انه صوت طنين بعوضة.
فليتركها تطن كما تشاء، ستمل حتما بعد قليل وتصمت وتنام هي الأخرى أو تغادر الغرفة إلى غير رجعة.
ززززز.
الصوت يعلو ويقترب حتى يخرق أذنيه ويقطع عليه الطريق إلى النوم ويجبره على فتح عينيه في ضيق.
ماذا تريد هذه الحشرة منه؟، لقد تركها تلهو في الغرفة كما تشاء فلماذا تصر على ازعاجه ؟، لماذا لا تطن بعيدا عنه في أي غرفة أخرى من غرف القصر؟
لا يمكن أن يسمح لها بإفساد ليلته الهادئة، نهض من الفراش ثم ضغط على زر الاباجورة، اعتدل في جلسته وجال ببصره في انحاء الغرفة وأخذ يبحث عنها بعينيه. لم يجد أي أثر لها، لقد اختفى الطنين تمامًا وعاد السكون ليعم الغرفة.
ربما أخافها الضوء فانسلت من الغرفة وربما تكون غير موجودة أصلا، ربما يكون صوت الطنين مجرد صدى يتردد في عقله أو أثر جانبي للمعركة الخطيرة التي خاضها على مدار الأيام الماضية. فلينسى أمر تلك الحشرة ويحاول أن يعوض ما فاته من النوم.
زززززززز
لم يكد القائد يترك عقله ليغوص في عالم الأحلام حتى داهمه إحساس بشيء يوخز يده اليمني، انفتحت حدقتا عينيه رغما عنه وأخذتا ترفرفان كالفراشة في ظلام الغرفة.
أحس أن هناك شيء خفي ينهش يده اليمني فأخذ يحكها بضيق، وكلما يحكها كلما ازداد احساسه بالتهاب جلده فتزداد رغبته في حك يده.
 انتفض من فراشه وأضاء نور الغرفة ثم صوب بصره نحو معصمه الأيمن فوجد فيه نقطة حمراء صغيرة كأنها شكة دبوس. لقد استغلت البعوضة الحقيرة انغماسه في النوم ووخزته.
 بدون وعي وجد نفسه يهرش قدمه اليسرى ثم امتد شعوره بالحكة إلى جسده كله، أخذ ينشب أظافره في ذراعيه وظهره ورقبته وأذنيه ورأسه كأنه أصيب بالجرب، وكلما أمعن في الهرش كلما ازداد شعوره بالالتهاب حتى بدأت علامات تورم حمراء تظهر فوق يديه وقدميه وذراعيه.
اشتعل ضيقه وتحول إلى غضب عارم، لقد أخطأ عندما تجاهل تلك البعوضة وتركها تحوم في الغرفة كيفما تشاء حتى تسللت وقامت بامتصاص دمه. لابد أن يبحث عنها ويسحقها سريعًا.
نهض من مكانه وفتح عينيه وأخذ يدقق البحث في كل جزء من الغرفة، الفراش، الكومود، الاباجورة، الباب، المنضدة والفازة التي تتوسطها، الحائط والصور الزيتية التي تزينها، الدولاب، المرآة، السقف، الأرضية.
لا شيء، لا شيء، هل هربت الحشرة الجبانة مجددا؟ لا، لم تهرب، إنها تستغل قدرتها الفائقة على الاختباء حتى تخدعه ولكنه لن يعود إلى النوم قبل أن يجدها ويسحقها.
الأمر يحتاج إلى مزيد من البحث والتدقيق، عاد يجول ببصره بين مفروشات الغرفة، توقفت عيناه على المنضدة السوداء.  لمح شيئا يقف فوقها، اقترب منها ودقق النظر، تسارعت دقات قلبه، إنها تستغل تشابه لونها مع لون المنضدة البني حتى ترقد فوقها وتتظاهر بأنها جزء منها. سر بقائها يكمن في قدرتها على التخفي والاختباء في أماكن لا تخطر للإنسان على بال ثم الظهور في الظلام والانقضاض على ضحيتها وامتصاص دمه في الوقت المناسب، قوتها تكمن في قدرتها على خداع ضحيتها والإيحاء إليه بأنها أضعف من أن تشغل تفكيره حتى تأتي في غفلة لتسرق النوم من عينيه بطنينها المزعج ولسعاتها المباغتة.
الناس يتجاهلونها ويعودون أنفسهم على تحمل لسعاتها لأن لا طاقة لهم بمطاردتها ولكنه ليس مثل بقية الناس، انه القائد العظيم ولذلك فهو لن يسمح لأي شيء بإزعاجه حتى لو كان هذا الشيء هو مجرد بعوضة.
مد يديه وقام بضربها فوق المنضدة ولكنه أخطأ التصويب عليها فطارت سريعًا ثم حلقت في سماء الغرفة، اخذ يصفق في الهواء حتى يقبض عليها ولكنه كلما أوشك على القبض عليها تنجح في الهروب منه.
 تملكه الغيظ عندما رآها تطير أمامه مباشرة وكأنها تتحداه، ظلت تقترب من وجهه حتى كادت تلتصق بعينيه فبدت له كأنها كائن أسطوري ضخم ومرعب له رأس عملاقة وجناحين هائلين وأرجل ضخمة قادرة على الامتداد والتحرك في كل الاتجاهات.
انتابه الخوف للحظات فأخذ يضرب وجهه بيديه بلا وعي حتى اختفت من أمامه، ولكنه سرعان ما استرد رشده فازدادت حدة غضبه وازداد إصراره على العثور عليها.
 من المستحيل أن يسمح لتلك الحشرة الحقيرة بالهروب من الغرفة وهي تحمل قطرة من دمه.
أخذ يبحث عنها في كل منطقة في الغرفة بهمة حتى وجدها أخيرًا تقف فوق السقف.
كانت تقف بعيدا فتبدو كنقطة سوداء تلوث غرفته البيضاء الجميلة، إنه لن يستطيع الوصول إليها هكذا، لابد أن يستعين بوسيلة تساعده على الاقتراب منها.
خرج من الغرفة ثم عاد إليها حاملًا كرسي من كراسي السفرة ووضعه تحت المكان الذي تقف فيه البعوضة.
 كان من الممكن أن يقضي عليها باستخدام مضرب الذباب ولكنه أراد أن يقبض عليها ويسحقها بيديه، انه يريد أن يشفي غليله منها ويراها تتحول إلى أشلاء متناثرة بين أصابعه.
شب قليلا ومد جسده وذراعيه لأقصى مدى ثم ألصق يده بالسقف حتى يضربها ولكنه أخطأها للمرة الثانية فطارت سريعا وحلقت قليلًا في الهواء ثم عادت لتستقر فوق سطح الدولاب.
أخذ يزمجر غضبًا، شعر بالغيظ من نفسه، لماذا يهدر الوقت المخصص للنوم في مطاردة تلك الحشرة ولا يستطيع التصويب عليها؟
 رفض أن يستسلم لها. رفض أن يتركها تعبث في حجرته لدقيقة أخرى، صمم على ملاحقتها حتى لو طارت خارج الغرفة إلى أن يتأكد من موتها.
المشكلة أن الدولاب ضخم ومرتفع ومن الصعب الوصول إلى سطحه عن طريق الكرسي، لابد من اتباع وسيلة أخرى.
ذهب إلى غرفة المطبخ وأحضر السلم الخشبي الطويل وسنده على الدولاب ثم أخذ يتسلق ببطء حتى وصل إلى قمته، تدفقت الدماء إلى رأسه وهو يرى البعوضة ترقد فوق سطح الدولاب في هدوء، إنه أقرب إليها من المرات السابقة وهذا يعني أن نهايتها صارت وشيكة.
 شب ووقف على أطراف قدميه ومد ذراعيه للأمام حتى استطاع الوصول إليها، قرب أصابعه منها ببطء شديد، إنه لا يريدها أن تستشعر وجوده ثم تفر هاربة مثل المرات السابقة.
 أحس بالسلم يهتز تحت قدميه ولكنه لم يهتم لأن التخلص من البعوضة استحوذ على عقله. هذه هي فرصته الكبرى ولن يدعها تفلت منه. رفع يده لأعلى ثم هم بضربها وقبل أن يقبض أصابعه فوقها اختل توازنه، ارتج السلم بعنف فوقع به إلى الخلف، أطلق صرخة مدوية ثم سقط مغشيًا عليه بعد أن ارتطمت رأسه بالأرض.
 تركت البعوضة سطح الدولاب واقتربت منه وأخذت تحوم حوله ثم امتصت قطرات من الدم السائل من مؤخرة رأس القائد العظيم، بعد أن أخذت كفايتها عادت تحلق في سماء الغرفة محتفلة بانتصارها عليه ثم تسللت من الشرفة وطارت في الفضاء قبل أن تقتحم منزلًا آخر.


0 تعليقات