قصة قصيرة :الرقصة الاخيرة
الرقصة الأخيرة
تنبيه هام : هذه القصة خيالية تماما ولا تمت لواقعنا الجميل بأي صلة
مر الليل وجاء الصباح ولا تزال الحاجة نعيمة
عاجزة عن النوم, لا تزال تسعل وتتأوه وهي
متكومة على الفراش الذي يحتل المساحة الأكبر من الحجرة الضيقة التي تجمعها بابنها
حسن وزوجته وأولاده الثلاثة, أدارت وجهها إلى اليسار حيث يقبع الدولاب الضخم الذي
يحتوي على ما تبقى من ملابسها وأشيائها بعد أن انهار منزلها من عامين. كانت على
وشك أن تغفو لكن صوت ابنها حسن دفعها للانتباه.
مدت بصرها نحو الباب فرأت رجلاً يقف بجوار
حسن فارع الطول يرتدي بذلة رمادية أنيقة ويغطي عينيه بنظارة شمس ضخمة, عرفته من
صوته العميق وهيئته الصارمة, انه عادل باشا, ارتجفت ثم رفعت رأسها واعتدلت في
جلستها.
لا
تعرف لماذا تشعر بالرهبة منه رغم أنه يعاملها باحترام شديد كما أنه صاحب أفضال
كثيرة عليها, يكفي انه اعطى تصريحا لحسن ببيع السمك المشوي في الشارع كما أنه حقق
لها حلمها ودفع ثمن سفرها لأداء العمرة من عدة أعوام, منذ ذلك اليوم أسبغ عليها
الجميع لقب حاجة رغم أنها لم تحج بعد.
حاولت
أن تداري شعورها بالرهبة منه بابتسامة
مرحبة " اهلا يا عادل باشا نورت الحتة ونورت الاوضة, معلش المكان مش على قد
المقام, روح يا حسن اعمل للباشا شاي وجيب له فاكهة ".
أشار عادل باشا لحسن بالتوقف قائلا بحزم"
لا مفيش داعي تتعب نفسك, أنا معنديش وقت, أنا جايلك في حاجة مهمة ".
امتقع وجهها خوفاً لكن عادل باشا عاد
ليطمئنها " متقلقيش الحاجة اللي أنا جايلك فيها سعيدة ".
بدت عليها الحيرة في انتظار أن يشرح لها
التفاصيل
أردف قائلا :
- الانتخابات يوم السبت, عايزك تلمي البنات وتعلموا لنا جو حلو يفرح الناس ويشجعهم عشان يدخلوا ينتخبوا.
أطرقت برأسها وردت عليه بصوت منكسر:
- غالي والطلب رخيص بس سيادتك شايفني, انا
بقيت عاملة زي الشوال, والمرض مخليني مش قادرة اتحرك.
-
مينفعش ترفضي يا حاجة , ده يوم مهم ومصر محتاجاكي .
- أنا تحت أمر مصر وتحت امركم بس ....
- من غير بس, مبدئيا فيه مكافأة ليكي وللبنات
200 جنية.
- 200 جنية يعملوا ايه في الزمن ده يا باشا؟.
- خلاص عشان خاطرك هخليهم 250 وفيه مكافأة تانية مستنياكم بعد الفوز.
- طب واللبس ؟. حضرتك عارف الحالة ضنك وإحنا
مفيش معانا....
- خلاص خدي هتيجبي لنا خمس بنات وكل واحدة
اديلها 300 جنية تشتري هدوم كويسة وياريت تختاروا حاجة بلون العلم.
مده يده في جيب بذلته وأخرج منها ألف
وخمسمائة جنية ثم دسها في يد الحاجة نعيمة
وهو يقول لها:
- مش هوصيكي, التليفزيون هيجي يصوركم وعايز
منظركم يشرفنا, هه ؟
ملمس النقود جعل الحيوية تدب في جسدها
العجوز. التمعت عيناها السوداوان المكحلتان وجلجل صوتها وهي تقول له:
- اطمن يا باشا, إن شاء الله هنرفع راسكم زي
كل مرة.
غادر عادل باشا الحجرة بينما وقف حسن ينظر لأمه بضيق ثم قال لها مستنكراً :
- ليه يا مه تبهدلي نفسك؟, إنتي مش كنت بطلتي
الشغلانة دي.
- يا بني دي شغلانة سُقع وتعبها قليل وفلوسها
كتير, واحنا في عرض كل جنية.
كانت الحاجة نعيمة تملك خبرة طويلة في هذه
الأنواع من المهام الوطنية الحساسة حيث اعتمد عليها عادل باشا من قبل في قيادة مسيرات تأييد وإقامة احتفالات
أمام العديد من اللجان الانتخابية, ورغم أن وظيفتها موسمية وغير مستديمة إلا أنها تراها
مربحة وغير متعبة, إذ يقتصر دورها على تجميع الفتيات والإشراف عليهن وتوجهيهن عن
بعد.
سر نجاح الحاجة نعيمة في وظيفتها وسر ثقة
عادل باشا فيها هو أنها كانت تعرف جيدا الدور المطلوب منها ومن فتياتها أدائه, كانت تعرف هي وفتياتها كيف يجعلن مظاهر الفرحة
والبهجة تبدو طبيعية وواقعية أمام الناس.
طلبت من حسن أن يفتح الدولاب ويعطيها الصندوق
الحديدي الصغير الخاص بها.
فتحته بالمفتاح الذي تخفيه بين ملابسها
الداخلية ووضعت فيه كل النقود التي أعطاها لها عادل باشا. قررت ألا تشتري ملابس
جديدة, وأن توفر النقود لوقت العوز القادم وأن ترتدي العباءة الكحلي التي اشترتها
من خمس سنوات خصيصا من أجل حفل زفاف حسن.
اتصلت بخمسة من البنات اللاتي اعتدن على
العمل تحت إشرافها وقامت بالاتفاق معهن على الأجر وعلى موعد التجمع.
يوم السبت في الساعة التاسعة صباحاً وقف ميكروباص
كبير أمام الشارع الرئيسي المؤدي للحارة خصصه عادل باشا لكي يقل الحاجة نعيمة
وفتياتها لمقر اللجنة التي سيؤدين عملهن أمامها.
أخذت الحاجة نعيمة تجر قدميها بخطوات
ثقيلة في الشارع, كانت تسند يدها اليمنى على عصا خشبية قديمة ويدها اليسرى
على كتف إحدى فتياتها اللاتي كن يرتدين زي موحد عبارة عن تيشترات بلون العلم
وبنطلونات جينز سوداء ضيقة.
نزل السائق من الميكروباص ليساعد الحاجة
نعيمة على الصعود والجلوس بجواره في بينما
صعدت الفتيات واحدة تلو الأخرى وركبن في الخلف.
عندما استمعت الحاجة نعيمة إلى أغنية
"متقولش إيه ادتنا مصر" تنطلق من مسجل المكيروباص ورأت السائق يضغط على
صوت النفير بدقات متتابعة أدركت أن ساعة العمل الوطني قد دقت . قربت يدها اليسرى
من فمها واطلقت زغرودة عالية تردد صداها
في الشارع وجعل المارة وقائدي السيارات يلتفون إليها, رأوها تصفق هي والفتيات
بحماس ثم أمسكن الأعلام التي أعطاها لهن السائق ولوحن بها خارج النوافذ لكي يلفتن
الأنظار بينما أخذن يهتفن باسم مصر.
وصلت
الحاجة نعيمة وفتياتها إلى مقر اللجنة الانتخابية الذي يقع داخل إحدى المدارس
الثانوية في أحد الأحياء الراقية, وجدن أدوات الاحتفال بالعُرس الديمقراطي في انتظارهن, كانت
الأدوات عبارة عن راديو كاسيت مزود بفلاشة تحتوي على أشهر الأغاني الوطنية, مجموعة
من الأعلام بأحجام متنوعة, مجموعة من الصور واللافتات التي تحث الناس على المشاركة
والانتخاب, باقة من الزهور لإهدائها إلى الناخبين بعد خروجهم من اللجنة, ومجموعة من
الدفوف والطبول يمكن استخدامها لإضفاء المزيد من البهجة على الاجواء الاحتفالية.
جلست الحاجة نعيمة على إحدى الكراسي الخشبية
الموضوعة أمام باب المدرسة, ثم أعطت أوامرها للفتيات حتى يبدأن العمل.
شغلت إحدى الفتيات الموسيقى بينما بدأت
الأخرى في هز خصرها والتمايل يمينا ويسارا والتلويح بالعلم, وسرعان ما انضمت إليها
باقي الفتيات بينما أخذت الحاجة نعيمة تصفق لهن في مكانها ومن حين لآخر تطلق
زغرودة عالية لإثبات حضورها.
الأجواء الراقصة لم تنجح في تشجيع الناس على
دخول اللجنة والإدلاء بأصواتهم ولكنها
نجحت في لفت انتباههم, كان كثير من المارة
من الرجال يتوقفون عن السير ويرمقون أجساد
الفتيات الراقصات بنظرات شبقة ثم يرفعون أيديهم إلى السماء ويدعون الله أن تمتد
الانتخابات إلى ما لا نهاية حتى يستطيعون مشاهدة الفتيات وهم يؤدين واجبهن الوطني.
رغم قلة أعداد الناخبين إلا أن حماس الفتيات للرقص لم يقل مع مرور الساعات بل
زاد خصوصا مع اجتماع القنوات الفضائية لتصوير الاجواء الاحتفالية ونقلها إلى
المشاهدين في كل أنحاء العالم كدليل دامغ على سعادة المواطن بالانتخابات, تقدمت
إحدى الفتيات ووقفت أمام الكاميرا ثم أخذت
تهز بطنها وثدييها للأمام والخلف بقوة
بطريقة تشبه الحركات التي تؤديها الراقصة دينا, توقف أحد الشباب وأطلق صفيرا
عالياً ثم نادى عليها مستخدماً عبارات بذيئة.
احمر وجه الحاجة نعيمة عندما رأت احدى القنوات
الفضائية تصور هذا المشهد, سارعت بسب الشاب وأمرته بمغادرة الشارع قبل أن تبلغ عنه
البوليس ثم وبخت الفتاة قائلة " ارقصي بالراحة يابت إحنا مش في كباريه".
نفذت الفتاة أوامر معلمتها وسرعان ما تراجعت
الفتاة عن هز خصرها وبدأت ترقص بشكل أهدأ وأقل لفتا للأنظار.
مر الوقت وبدأ ضوء الشمس ينحسر من السماء مع
اقتراب موعد الغروب, توقفت الحاجة نعيمة وفتياتها عن الاحتفال لكي يتناولن طعام
الغداء المكون من علبة كشري كبيرة تم توزيعه عليهن من أحد أعوان عادل باشا.
التهمت الفتيات الكشري سريعا, امتلاء معدتهن
بالطعام جعلتهن يشعرن بالكسل وعدم الرغبة في مواصلة الرقص, لكن الحاجة نعيمة التي
لا تقبل بالتخاذل والتقصير في العمل الوطني أمرتهن بمعاودة الرقص فورا, وذكرتهن
أنهن لا يفعلن ذلك من أجلها بل من أجل مصر .
عادت الفتيات للرقص ولكنهن فقدن حماس الساعات
الأولى وتسلل إليهن الملل مع تكرار رقصهن على نفس الأغاني الوطنية والتي يخلو
معظمها من الإيقاعات الصاخبة القوية التي تعج بها أغاني الأفراح والمهرجانات. ذهبت
الفتاة إلى الحاجة نعيمة واستطاعت اقناعها بصعوبة أن تدعها تستبدل الأغاني الوطنية
بأغاني المهرجانات من أجل جذب الشباب وتشجيعهم على دخول اللجنة الانتخابية.
وما أن انطلقت أغنية "العب يلا "
في الشارع حتى استعادت الفتيات نشاطهن وأخذن يرقصن بحماس وسرور, نجحت الأغنية في
انتزاع انتباه كثير من المارة من الشباب الذين وقفوا ليصفقوا للفتيات.
لم تكن الحاجة نعيمة تحب الاستماع
إلى اغاني المهرجانات إلا أنها وجدت نفسها تتجاوب مع إيقاع الأغنية وبدأت تصفق وتهز جسدها وهي
جالسة على مقعدها, التفتت إليها إحدى الفتيات ثم اقتربت منها ومدت لها يديها حتى
تساعدها على الوقوف .
رغم شعور الحاجة نعيمة بألم شديد في ركبتيها
إلا أنها تحمست للاشتراك مع الفتيات في
الرقص , كانت حركاتها في البداية خجولة وبطيئة ولكنها سرعان ما اندمجت مع الاجواء
وتركت العصا التي كانت تستند إليها وأخذت تهز جسدها بعفوية. تناهى
إلى سمعها صوت دف كانت احدى الفتيات تدق عليه لتزيد من صخب الأجواء الاحتفالية.
صوت الدف ذكرها بنفسها في الطفولة عندما كانت أمها تأخذها إلى الزار الذي كان يٌقام
كل بضعة أشهر في الحارة من أجل صرف العفاريت التي كانت أمها تعتقد انها تسكن
جسدها. كانت نعيمة الصغيرة تحب الذهاب إلى الزار لأنه يتيح لها اخراج كل طاقة
الغضب والكبت المخزنة داخلها بالانطلاق في الرقص بلا حدود حتى تسقط على الأرض
مغشياً عليها.
أخذت الحاجة نعيمة تكرر نفس الرقصات الغريبة التي
كانت تقوم بها في طفولتها, أغمضت عينيها وبدأت تحرك رأسها يمينا ويسارا مثل الدراويش
وتلوح بالعلم, رفعت يديها للسماء ودعت الله في سرها حتى يرحمها ويرفع عنها المرض
والفقر والنحس الملازم لها ولأسرتها منذ أن خلقهم الله.
رقصها على إيقاع الدفوف لفت أنظار الناس أكثر
من رقص الفتيات الشابات, أخذ الناس ينظرون إليها بسخرية ويضحكون على حركاتها
الثقيلة التي تشبه حركة الدب, اقترب منها احد المارة وقام بتصويرها بكاميرا
تليفونه المحمول, بعد دقائق حمل فيديو رقصها على صفحته على الفيسبوك وكتب
فوقه " شاهد حصريا: ست عجوزة بترقص
زي المجانين في الانتخابات ".
لم تنتبه الحاجة نعيمة إلى سخرية المارة منها
وتعليقاتهم على رقصها وتصويرهم لها, لأنها لم تكن تشعر بوجودهم, إنها حتى لم تشعر بوجودها وبجسدها العجوز الثقيل, ولم تشعر
بعظامها المتآكلة وبعضلاتها المتيبسة. لم
تشعر بأي شيء ولم تسمع سوى شيء واحد : إيقاع الدٌف.
لقد تملك الإيقاع منها واستحوذ عليها ووضعها
في ملكوت آخر وجعل جسدها عبدا له , صار لزاما عليها أن تتجاوز مرضها والآمها حتى
تتجاوب معه وترضيه, أغمضت عينيها وتركت جسدها
يسبح بحرية في المكان.
شعرت برغبة قوية في البكاء فلم تقاومها, تركت
الدموع تنساب من عينيها في سلاسة وهدوء, لم ير أحد دموعها لأن الجميع كانوا منشغلين بمتابعة اهتزاز جسدها السمين. اقترب منها مجموعة من الشحاذين وأطفال الشوارع, أخذوا
يرقصون ويدورون حولها ويهتفون ويهللون بينما كانت الحاجة نعيمة تهتز ترفع ذراعيها لأعلى وتهتف "يارب "
وتنتفض وتلهث والعرق يتساقط من رأسها المغطى بإيشارب أسود واللون الاحمر يصبغ
وجهها المتغضن والتعب يسيطر على جسدها الذي انهكه المرض, فجأة عجزت الحاجة نعيمة عن
التنفس وشعرت أن هناك شيئا داخلها ينهار, فتحت عينيها على اتساعهما واطلقت صرخة
استغاثة ثم سقطت على الأرض وسقط العلم فوقها.
تجمعت الفتيات والشحاذون والمارة حولها,
حاولوا أن يعيدوها إلى الوعي بصب الماء على وجهها وبوضع زجاجة عطر بالقرب من أنفها
ولكنها لم تستجب, ظلت مكومة على الأرض مثل الحيوان الجريح. قام أحد المارة بقياس
نبضها فاكتشف أنها فارقت الحياة بعد أن أدت واجبها الوطني بكل إخلاص.
0 تعليقات
رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته