"
ماذا يحدث لمن يقضون حياتهم خائفين من التعبير عن آرائهم ؟ الأرجح أنهم يتوقفون عن
التفكير أو يعتادون على الكلام الفارغ ".
استوقفتني تلك العبارة في رواية لا قديسون
ولا ملائكة للأديب التشيكي ايفان كليما ولمست عقلي وجعلتني أدرك لماذا يكره أغلب الناس
في بلادنا القراءة والمعرفة, ولماذا يفضلون
قضاء وقتهم على المقاهي في تدخين الشيشة
ولعب الطاولة ومشاهدة مباريات كرة القدم.إننا من فرط كراهيتنا للتفكير نعتبره مرض
ونصف الشخص المهموم بأنه ( عنده فكر ), الشخص الطبيعي بالنسبة لنا هو صاحب العقل
الفارغ الذي لا يفكر ولا يتدبر ولا يشغل عقله بأي أمور عميقة أو معقدة. أما الشخص
الذي يجرؤ على السؤال والبحث والتفكير في شئون الحياة فهو مصدر كبير للخوف والشفقة بالنسبة
للأغلبية.
اننا
نخاف منه لأنه يحاول أن يجبرنا على ترك
السطح والاستيقاظ من غفوتنا وهذه اليقظة ستجعلنا نرى البؤس والظلم الذي نعيش فيه,
ونشفق عليه لأننا ندرك أن مصيره سيكون الاعتقال أو الاغتيال من قبل سلطة تخاف من
أصحاب العقول أكثر مما نخاف من أصحاب البنادق.
التفاهة في مصر ليست مجرد ظاهرة أو صفة أو
سلوك شخصي, انها أسلوب حياة وثقافة تعلمناها منذ الصغر, تعلمنا التفاهة في المدرسة
التي تجبرنا أن نلغي عقولنا ونحفظ بدون أن
نفهم ولا نجادل المدرس حتى نحصل على الدرجة النهائية , تعلمنا التفاهة من الكبار الذين
أجبرونا على الصمت والهدوء والطاعة العمياء وعدم المناقشة حتى نكون في نظرهم أطفالا مؤدبين, تعلمنا التفاهة من رجال
الدين الذين أغلقوا باب الاجتهاد وأعلوا من شأن الطقوس واختصروا الدين في الحجاب
واللحية والسبحة وأقنعونا الحاكم هو من أولي الأمر فلا تجوز مناقشته أو معارضته بل
يجب طاعته والامتثال لحكمته, تعلمنا التفاهة من وسائل الاعلام التي طردت العلماء
والمفكرين من جنتها ومجدت الفنانين ولاعبي الكره والراقصات وأغرقتنا ببرامج
الترفيه الفارغة والحوارات الجوفاء . حتى الفن عندنا لم يسلم من التفاهة بل استسلم
لها وصارت هي القاعدة سواء في الأفلام والمسرحيات التي عملتنا كيف نضحك على
الأقزام والمشوهين وأصحاب العاهات وذوي الاحتياجات الخاصة وكل شخص غريب أو
مختلف, وأن نضحك على أي قصة بدون معنى
طالما أنها تمتلئ بالنكات الإباحية والرخيصة.
اننا محاطون بالتفاهة من كل جانب ومجبرون على
ممارستها حتى لو كنا نكرهها حتى يتقبلنا المجتمع, إذا راقبت الجلسات العائلية أو الجلسات
بين الأصدقاء سترى الجميع يبتسمون حتى لو
كان البؤس يطل من عيونهم, يشتكون من حالة الطقس
حتى يتجنبون الشكوى من أحوالهم, يمزحون ويضحكون حتى لو كانت النكات التي يلقونها مكررة وثقيلة, يدعون التفاؤل ويتظاهرون أن القادم أفضل حتى لو
كانت كل العلامات تؤكد أن القادم أسوأ كثيرا, ينشغلون بالحديث عن الطعام ولذته
وطرق الطهي حتى لو لم يكونوا قادرين على شراء الطعام الذي يتحدثون عنه, يتشاجرون
حول الأهلي والزمالك كأن حياتهم ستتوقف على فوز أي منهم في المباريات. ينشغلون
بمراقبة الآخرين وانتقادهم والسخرية من أشكالهم وملابسهم, يستمتعون بممارسة
النميمة والغيبة والحكم على الناس بدون أن يعرفوا ظروفهم لكي يثبتوا لأنفسهم أنهم
أفضل وأن حياتهم أحسن من غيرهم.يتحدثون كثيرا ويثرثرون بدون أن يقولوا أي
شيء.
إنهم يحبون الثرثرة لأنها تجعلهم يملئون الوقت بالكلام وتجنبهم التفوه بأي
كلام له معنى, يتحدثون في كل شيء إلا الأشياء التي تشغل بالهم فعلا, يمرون على الموضوعات العامة مرور الكرام ويتجنبون
الإفصاح عن أراءهم الحقيقية طالما أنها تخالف رأي الاغلبية, يهربون من الخوض في أي
موضوع سياسي بعبارات مثل " الله يصلح
الأحوال " أو " ربنا يستر ".
لقد
توقف النظام عن مراقبة الناس بعد أن اعتاد الناس ممارسة الرقابة الذاتية
وردع أنفسهم بأنفسهم, وردع أي أحد يجرؤ
على الخروج عن الإجماع الشعبي و الاتيان
برأي مختلف أو غريب.
الأخ الكبير الذي استخدمه جورج اورويل في
رواية 1984 كرمز للرقيب في الانظمة الشمولية يعيش داخل عقول الناس ويعمل بشكل
تلقائي كي يمنعهم التمادي في التفكير ويجعل كل مواطن يقوم بدور جهاز الأمن ويمارس
دور المواطن الشريف الغيور على وطنه, ويقبض على أي شخص يجرؤ على الشكوى أو التذمر من أحواله ناهيك عن احوال
البلد ويسارع في اتهامه بالخيانة والعمالة
والكفر, وبالتالي يضطر كل شخص أن يحتفظ بأفكاره لنفسه أو يمحيها تماما من عقله
حفاظا على سلامته ويجاري الآخرين وينغمس معهم في التفاهات.
القمع هو الأب الشرعي للتفاهة, فعندما تضع
حدودا للتفكير ويصبح هناك هامش للحرية وحدود للكلام , وعندما يصبح التفكير جريمة
والاختلاف خيانة لا يصبح أمامك اختيار سوى الهروب من العمق والاكتفاء بالعيش فوق
السطح والهوس بالمظاهر, والحكم على الكتاب من عنوانه, والانغماس في سفاسف الأمور.التفاهة هي وسيلتنا الوحيدة لحماية أنفسنا من التفكير في حياتنا البائسة ولحماية أنفسنا من قسوة الواقع وقسوة الآخرين وغضبهم
علينا.
التفاهة مغرية لأنها مريحة لكن الراحة التي
تجلبها تؤدي إلى الموت البطيء للعقل والروح.
المشكلة أن اعتيادنا على التفاهة يجعلنا نعيش
في فقاعة من الاكاذيب يمكن أن نتفجر في أي وقت , إننا نعيش مغتربين عن أنفسنا حتى نحافظ على بقائنا, ننكر
الحقيقة حتى لو كانت واضحة مثل قرص الشمس ونتظاهر أن كل موضوع صغير هو في الحقيقة
كبير وكل موضوع كبير لا يستحق التفكير.
أتذكر كم ارتجفت خوفا وفرحا يوم 25 يناير
2011 عندما تناهي إلى سمعي صوت المتظاهرين في الشارع وهم يهتفون مطالبين بالحرية, الحرية
اكتسبت سمعة سيئة بفضل الجهاز الاعلامي التابع للنظام الاستبدادي وصارت مرادفة في عقول الناس للفوضى
والإباحية, لكن في الحقيقة الحرية أكبر قيمة وأعظم شيء يمكن أن يتمتع به الإنسان ,
إنها القيمة التي نحسد مواطني الدول الغربية عليها, إنها الحق الأساسي الذي لابد
أن يتمتع به كل إنسان, لقد خلقنا الله أحرارا في الأساس ولكن من اعتاد على القمع لابد أن يخاف من الحرية
ويحارب كل من يطالب بها, ومن اعتاد على الحياة في مستنقع التفاهات لابد أن يكره أي
تفكير حقيقي.
4 تعليقات
أريد بريدك الإلكتروني
ردحذفضروري
وشكرا
بريدي الالكتروني هو yasminewriter@gmail.com
ردحذفرائع جداً يا ياسمين
ردحذفما شاء الله
لكني دائما ما أقول
أني مع كل ما يفرح الناس
حتى لو فرح لحظي وهمي
يمكن أكون مخطئ
أحسنتي
مقال صادق جدا
ردحذفرأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته