سأحكي لكم عن قصة حبي الوحيدة, لقد كتمتها في
صدري لمدة طويلة وخشيت الإفصاح عنها لأي مخلوق, كنت أخاف لو استمع أحد إلى ما حدث
لي أن يتهمني بالجنون, أنا نفسي لا أصدق أنها حدثت بالفعل وكثيرا ما أسأل نفسي, هل
تمتعت برؤية جمالها الخلاب, هل استمعت إلى صوتها العذب؟ هل تبادلنا الحديث ؟ أم أن كل ما عشته معها كان حلمًا عابرًا ؟
لو كانت حلما لتمنيت أن أظل نائمًا للأبد.
ولكني متقين أن كل ما حدث لي معها حقيقة, حقيقة رأيتها وسمعتها ولمستها بيدي,
حقيقة غيرتني كليا, لذا ستظل محفورة في قلبي وذاكرتي حتى تنفصل روحي عن جسدي.
قبل أن أراها كانت حياتي ملونة بالأبيض
والأسود وكان قلبي أشد جمودًُا من الصخر. أهلي وأصدقائي كانوا يصدقون الصورة التي
رسمتها لنفسي أمامهم, صورة الشاب المحترم الخجول الذي يغض بصره عن النساء و يستطيع
التحكم بسهولة في شهواته , كانت يعتقدون أنني امتنع عن النظر للنساء تدينًا وتعففًا.
الحقيقة أنني كنت أغض بصري عنهن اشمئزازًا
ونفورًا.
كنت
أرى كل نساء العالم قبيحات, حتى نجمات السينما والغناء كلهن بلا استثناء قبيحات
ولكنهن يعرفن كيف يخفين قبحهن بأدوات التجميل, والرجال الذين يرون فيهن أي جمال يخادعون
أنفسهم أو أنهم مصابين بضعف في البصر.
لقد وصلت لهذا الاستنتاج بعد سنوات طويلة
قضيتها وأنا أحاول التقرب من النساء بحثا عن فتاة أحلامي, لقد كنت مثل أي مراهق
يشتعل قلبي بالنار المقدسة كلما وقعت عيني على فتاة تبدو جميلة تسير في الشارع,
تلك النار كانت تدفعني لكي أتبعها. أتذكر حتى الآن أول فتاة تعرفت عليها , جذبني
إليها بشرتها البيضاء النقية و شعرها الأسود الناعم الطويل الذي كان يغطي ظهرها
ويصل إلى خصرها الرفيع, سرت ورائها بلا وعي, اقتربت منها وبادرتها الحديث ,
استدارت وابتسمت لي, أخذت أتأمل تفاصيل وجهها وجسدها فأصبت بالصدمة, رأسها الكبير
ليس متناسقًا مع جسدها الصغير, بشرتها ليست
نقية بل أنها تتملأ بالحبوب والنمش والبقع الداكنة التي تبدو كالأوساخ, هناك
اعوجاج واضح في أنفها وتشققات عديدة في شفتيها وندبة كبيرة في رقبتها.
تراجعت للوراء وأنا أشعر بالامتعاض, لم اصدق أنها الفتاة
الجميلة نفسها التي حُلمت بالتقرب منها, لقد خدعتني عيناي وأخفت عني قبحها, في
البداية تصورت أن حظي أوقعني في تلك الفتاة القبيحة وأنني إذا واصلت البحث سأجد
فتاة أحلامي الجميلة. نعم
,الجمال كان شرطي الأول والأخير في فتاة أحلامي, الجمال هدفي وضالتي في هذه الحياة
القاسية المليئة بكل مظاهر القبح والدمامة. الجمال بالنسبة لي هو مرادف للكمال
والتناسق والنقاء التام. الجمال الذي أبحث عنه هو جمال استثنائي, جمال كلي لا
تشوبه شائبة ولا تقلل منه نقيصة, جمال سحري يطيح بعقلي ويجعلني أسيرًا أبديًا
لصاحبته.
أخذت
أبحث وأفتش لسنوات عديدة بين نساء المدينة عن فتاتي المنشودة فلم أجد سوى أشباه
جميلات أو قبيحات يتخفين تحت ستار من الجمال الزائف, بعضهن يتملكن ملامح من الجمال
ولكنهن لا يملكن كل مقوماته, فمن تملك الوجه المتناسق لديها جسد غير متناسق والعكس
صحيح, وأنا لا أطيق رؤية العروق والدهون والتقيحات والتجاعيد والانحناءات
والالتواءات والتقوسات والترهلات في أجساد النساء, تلك الشوائب تطفأ شهوتي وتثير
اشمئزازي, كنت استغرب عندما أرى اصدقائي يقعون في حب واحدة من تلك الفتيات
القبيحات, كنت أسألهن ألا تروا عيوبهن ؟.
كانوا يضحكون على ويقولون لي إنك لم تقع في الحب
, فالحب يجعلك ترى كل عيب في محبوبتك فضيلة. كنت أقول لهم إذا كان الحب سيجعلني
أرى الضفدعة غزالًا فالأفضل أن أغلق قلبي بإحكام.لم أستطع أن أكون مع فتاة صاحبة جمال متوسط. كنت
ابحث عن مخلوقة استثنائية ليس لها مثيل, جنية قادمة من كوكب آخر. إن وجدتها سألقي
بقلبي تحت قدميها وأعيش خادمًا مخلصًا لها وإن لم أجدها سأعتزل النساء للأبد. وهذا
ما فعلته بعد أن يئست من العثور على فتاتي.
مرت علي سنوات وأنا أعيش وحيداً راضيا قانعا
باختياري, كنت أتمشى ليلا في شارع خلفي في أطراف المدينة فاستوقفني محل لبيع ملابس
النساء, إنني في العادة لا أتوقف أمام هذه المحلات ولا يغريني تأمل الملابس
الساخنة المعروضة في واجهاتها. لكن أضواء النيون التي كانت تشع من
هذا المحل الصغير جعلتني أتوقف أمامه واتأمل واجهته من باب الفضول وحب الاستطلاع.
ألقيت بصري وراء الفاترينة فشاهدت مجموعة من المانيكانات يقفن بجوار بعضهن ويرتدين
مجموعة متنوعة من البنطلونات والجيبات والفساتين الأنيقة.
جذبتني وجوههن المتناسقة, بدت لي متشابهة
ولكنها أجمل بمراحل من وجوه النساء اللاتي أراهن حولي كل يوم. بدا لي أن من صنع تلك التماثيل يمتلك ذوقا مميزا وحسا رفيعا بالجمال.
صوبت بصري على احداهن, لفت نظري الفستان
الأسود القصير الذي ترتديه, أصبت بالذهول عندما تطلعت إلى ملامح وجهها وتفاصيل جسدها, بشرتها البيضاء
الناعمة أنقى من الثلج, وجهها البيضاوي منحوت بدقة, شعرها اصفر ناعم و طويل تتلألأ
خصلاته كحبات الذهب, شفتيها حمراوين كحبة فراولة طازجة, عيناها خضراوين كالمروج,
أنفها مرسوم كالقلم المستقيم, رقبتها طويلة شامخة, ثدياها ممتلئان كأنهما ثمرتين ناضجتين
ينتظران من يقطفهما, ساقاها طويلان مستويان بلا تقوسات, واصلت تأمل كل تفاصيل
جسدها بحثًا عن عيب أو خطأ في تصميها فلم أجد سوى الروعة والبراعة والكمال التام,
شعرت إنني أشاهد افروديت وفينوس متجسدتين أمامي في صورتها. تسارعت دقات قلبي
واشتعلت النار القديمة في عروقي. فقدت إحساسي بالوقت وأنا أتأمل ابتسامتها الهادئة
ونظرتها الساحرة المتطلعة نحو الأفق. أيقظني صوت رجل خرج من المحل ليسألني بسخرية" هل تريد دخول المحل ومشاهدة الفساتين يا استاذ ؟".
أطرقت برأسي في الأرض ثم غادرت المكان سريعًا وأنا أشعر بالحرج , بمجرد أن عدت إلى
منزلي غمرني اشتياقا جامحا لها وتمنيت أن أعود إلى المحل حتى استطيع أن أملأ عينى
بجمالها ولو للحظات قليلة. هل
هذا هو الحب ؟ , إن كانت الإجابة نعم, فكيف أحب مانيكان , كيف أهب قلبي لجماد صامت
؟ كيف أقع تحت سحر تمثال مصنوع من
البلاستيك ؟.
قررت أن أتجاهل مشاعري وأنسى الأمر برمته ,خلدت
إلى النوم ولكني بمجرد أن أغمضت عيني رأيتها تقف أمامي وتنير ظلام غرفتي بابتسامتها
البراقة, ثم رأيتها تفتح فمها وتحدثني بصوت هامس, طالبتها بأن ترفع صوتها فواصلت
الابتسام وطوقتني بذراعيها فاقتربت منها ولمست وجهها وشفتيها بأصابعي ثم ملت
نحوها حتى أقبلها ولكن قبل أن تلتصق شفتي بشفتيها تبخرت من أمامي وعدت إلى ظلمتي ,
فتحت عيني ونهضت من نومي وأنا أشعر بنار خفية تحرق أحشائي ببطء.
ذهبت إلى عملي ولكني لم أتمكن من التركيز في
أي شيء لأن صورتها كانت تلتصق بذهني وتفاصيلها كانت تقفز أمامي وتزيدني اشتعالا
وشوقا إلى رؤيتها.
إني أحبها ولكن ماذا أفعل ؟ هل سأقضي أيامي
أتأملها كل يوم من وراء الزجاج ؟ هل أسرقها من المحل واحتفظ بها عندي في المنزل؟
إنه الجنون بعينه, إنني فقدت عقلي, لقد سرقته مني تلك الفتاة البلاستيكية.قررت أن أذهب لأراها ولكني خفت أن يراني صاحب
المحل. انتظرت حتى آخر الليل ثم توجهت إلى المحل, كان الشارع الخلفي الذي يقع فيه
المحل ساكنُا ومظلمً, أخذت اتطلع نحو واجهة المحل بلهفة حتى رأيتها فعاد قلبي للخفقان
بسرعة, نور جمالها بدد العتمة الجاثمة على
المكان.
الصقت عيني بزجاج الفاترينة حتى اقترب منها بقدر ما استطيع وأعانقها ولو بعيني
فقط.
بينما كنت أتأمل ملامح وجهها السحري لاحظت
أنها لا تبتسم , أيمكن أن تكون مانيكان آخر غير التي رأيتها المرة الماضية؟ , لا ,
إنها هي, إنني لا يمكن أن أخطأ في وجهها التي حفرت تفاصيله في ذاكرتي, ماذا حدث ؟
, واصلت تأملها فلاحظت شيئا آخر أثار خوفي وذهولي, رأيت قطرت من المياه تتساقط من
عينيها.أخذت أفرك عيني عدة مرات , ظننت أن الجنون
وصل معي لمنتهاه.
ذكرت نفسي أنها ليست إنسانة مثلي, إنها مجرد مانيكان جميل
ورغبتي الجامحة فيها لن تحولها لإنسانة ولن تنفي عنها صفتها الأصيلة, إنها جماد والجماد لا يبكي.
كان عقلي يؤكد لي أنها جماد بينما كانت عيني
تؤكد لي شيئا مغايرا, رأيتها تحرك رأسها وتتطلع نحوي فتراجعت للوراء في ذعر, رأيت
شفتيها تتحركان بانتظام, إنها تتكلم ولكني لا أسمع ما تقوله , ظننت أن جمالها أطاح
بعقلي وأنني بلغت مرحلة أخرى من الجنون ولكنها واصلت التحرك ببطء شديد ودقت على
الزجاج وأشارت لي لكي اقترب, اقتربت بدون أن أشعر والصقت أذني بالزجاج فسمعتها
تقول لي :
" ارجوك ساعدني ".
رجائها لي بعدم الخوف ضاعف من هلعي فقلت لها :
-لابد أنني أهذي , كيف تتحركين هكذا
وتتحدثين معي وأنتٍ مانيكان ؟
همست لي قائلة :
- أنت لا تهذي , أنا لست
مانيكان, إنني في الأصل إنسانة.
توقفت عن الكلام ثم واصلت بنبرة حزينة:
- لقد كنت إنسانة كاملة ولكن الجزء
البشري في يموت كل يوم ".
تطلعت إليها باستغراب متسائلا :
- لا افهمك
, كيف كنتٍ إنسانة ثم تحولت إلى مانيكان ؟
حكت لي قصتها باختصار قائلة:
- لقد كنت
حتى وقت قريب فتاة عادية أعيش حياة هادئة بسيطة في مدينة صغيرة مع أسرتي , بعد أن
انهيت دراستي الجامعية وجدت عمل كموظفة في مصنع للملابس ثم فوجئت أن صاحب المصنع يحاول التقرب مني
ويعلن عن حبه لي ويطلبني للزواج, ولكني رفضت طلبه فاختطفني وقام بحبسي في المصنع,
وهناك رأيت تماثيل لفتيات كثيرات أكثر جمالا مني وعرفت بعد ذلك أنهن مخطوفات مثلي,
عندما سألته لماذا اختطفني قال لي أنه يحبني بجنون ولا يحتمل أن أكون لأحد سواه
ولذا فقد ألقى علي تعويذة سحرية ليحولني
إلى مانيكان في سلسلة المحلات التي يملكها حتى يستطيع أن يحتفظ بي عنده للأبد.
وهذا ما حدث, فمنذ ذلك الحين توقفت عن الحركة والتفكير والإحساس وصرت مجرد شماعة
جميلة لعرض الملابس ولكن بعد أن يحل الليل و ينغلق المحل, يخف تأثير التعويذة علي
واسترد بعضُا من صفاتي الإنسانية , فأبكي وأتحسر على حالي ,أتذكر أهلي وأصدقائي
وأتذكر المستقبل المشرق الذي كان ينتظرني قبل أن أتعرض للاختطاف وأتحول إلى جماد
لا حول له ولا قوة.
عجزت عن تصديق قصتها العجيبة,أشرت نحو
زميلاتها المتجمدات في أماكنهن وقلت لها :
-وما عن بقية المانيكانات هل هن
مثلك من البشر ؟
أومأت برأسها وهمست :
- نعم , كلهن تعرضن للاختطاف من فترة طويلة
على يد صاحب المصنع الذي وقع في حبهن وألقى التعويذة عليهن حتى يحتفظ بهن للأبد,
وقد استسلمن لها بالتدريج واعتدن على
حياتهن لكني لازلت جديدة لذلك
فأنا لازلت أقاوم التعويذة ولازالت أحتفظ بالأمل في أن أعود إنسانة كما كنت, أرجوك
ساعدني على الهروب من المحل فلو استطعت
الخروج من تلك الفاتيرنة ووضعت قدمي على
أرض الشارع ستزول التعويذة مني, أنك تبدو
شابًا طيبًا وشهما ويبدو أنك متعاطف معي.
مدحها في أخلاقي هز قلبي فوجدت نفسي أقول لها
بدون وعي :
- أنا لست متعاطفًا معك فقط , الحقيقة أنني وقعت في حبك منذ أن رأيتك وهذا ما جعلني أتي لأشاهدك الآن.
أنك تمتلكين جمالًا فريدًا لا مثيل له.
ابتسمت لي بامتنان وقالت لي :
- أشكرك ولكن إن كنت تحبني فعلًا فلابد أنك
تريدني أن أكون إنسانة مثلك, وهذا لن يتحقق إلا لو ساعدتني على الهروب.
- وكيف بإمكاني أن أساعدك على الهروب وباب
المحل مغلق بقفل كبير ؟
- بإمكانك أن تفتحه بآلة حادة أو دبوس.
- أتريدني أن أتحول إلى لص ؟
- إنك لن تسرق شيئا بل بالعكس سترد فتاة
مخطوفة إلى الحياة.
- وماذا لو رن جرس الإنذار أو رآني أحد
المارة وأبلغ عني البوليس ؟
- اطمئن لا يوجد جرس إنذار في المحل , ولن
يراك أحد لأن هذا الشارع يكون مهجورًا بالليل.
تطلعت إلى عينيها الخضراوين فرأيتهما الخوف
والتوسل يقفز منهما.
قلت لها :
- اعطيني فرصة لأفكر
- لا يوجد وقت للتفكير, إنني أتحرك بصعوبة
وقريبا ستتبلد كل أعضائي وسأعتاد على حياتي كجماد إلا لو انقذتني.
تركتها وأنا لا أعرف ماذا اقول لها , قضيت الليل
وأنا أفكر في قصتها وفي حديثي معها الذي وقع في منطقة رمادية بين الحلم والخيال,
المنطق يقول أنني لا يجب أن استجيب لطلبها, ولا يجب أن اخاطر بنفسي من أجلها ولكني
طردت المنطق من حياتي منذ أن رأيتها, إنني أريدها بأي شكل ولكي أجتمع معها لابد أن
أساعدها لكي تعود إلى عالم البشر. في
اليوم التالي في آخر الليل خرجت من المنزل ومعي صندوق صغير يحتوي على أدوات حادة
ودبابيس صغيرة, وضعت على وجهي عصبة حتى لا يراني أحد ثم اقتربت من المحل , استقبلتني حبيبتي
بابتسامة عريضة , اقتربت من الفاتيرنة لأحييها فتحركت بصعوبة وقالت لي " كنت
متأكدة من مجيئك , هيا افتح القفل بسرعة".
هرعت نحو الباب وأمسكت القفل المتدلي من
السلسلة الحديدية بين يدى المرتعشتين , أخرجت مجموعة من الدبابيس وادخلت احدها في
القفل أعلى القطعة المعدنية وأخذت احرك الدبوس واحشره داخل القفل حتى وجدته يتحرك وينفتح والسلسلة التي تغلق
المحل تنزلق بين يدي , دق قلبي بعنف شديد بعد أن فتحت باب المحل ودخلته, استدارت
حبيبتي للخلف لتنظر لي والفرح يشع من وجهها النقي, اقتربت منها وحملتها على ظهري
خارج الفاترينة, اندهشت من خفة وزنها فهرعت بها خارج المحل وأخذت أجري بها نحو
الشارع الرئيسي قبل أن يرانا أحد ويكتشف أن باب المحل مفتوح ,انزلتها على الأرض ثم
وقفت لأراقبها وهي تتحرك.
رأيت عيناها تتسعان من الذهول وهي تشاهد قدميها
العاريتين تلمسان الأرض , انتفضت وأخذت تتنفس بعمق فأخذ صدرها يصعد ويهبط بانتظام
, اندهشت عندما رأيت الدماء تدب في جسدها وتحول لونه من الأبيض الناصع إلى أبيض
شاحب, و العروق الكثيفة تبرز في ذراعيها وجبهتها ورقبتها وساقيها, والحمرة تختفي
من شفتيها, واللمعان يختفي من شعرها الذي سرعان ما تأثر بالرياح وفقد تماسكه وصار مهوشا, حتى
عينيها فقدت بريقها بعد أن ملأتها الشعيرات الدموية وصار لونها الأخضر باهت. لقد
عادت حبيبتي إنسانة ولكنها ليست الإنسانة التي تخيلت أنها ستكون عليها, لقد
افقدتها عودتها إلى الحياة نصف جمالها, جسدها الذي كان يثيرني صار يربكني ويحيرني,
اقتربت منها واخذت الجاكيت الذي كنت أرتديه ووضعته فوق فستانها القصير, تطلعت لي
بامتنان ثم قالت برجاء :
- اشكرك لأنك اعدتني للحياة ,اسمح لي أن أطمع
في كرمك وأطلب منك نقودًا لكي أركب بها حافلة وأعود إلى مدينتي.
عز علي أن أفارقها بهذه السرعة فقلت لها :
- هل ممكن أن تعطيني عنوانك حتى استطيع
التواصل معك ؟
أطرقت برأسها وقالت لي :
- من الأفضل ألا نتقابل مجددًا.
صدمني ردها فسألتها :
- لماذا تريدين الابتعاد عني ؟ هل هذا جزاء
مساعدتي لك ؟ ألا تعلمين كم أحبك ؟
رمقتني بابتسامة ساخرة وقالت لي:
- إنك لا تحبني , لقد لاحظت نظراتك لي بعد أن رأيتني أعود إنسانة ,إنك لم تقع في حبي
بل وقعت في حب المانيكان التي رأيتها في المحل.
- لا تقولي هذا الكلام , انتٍ والمانيكان شيء
واحد.
- لا , إنها أفضل وأجمل مني بمراحل ولكني
أفضل أن أعيش في جسدي الفاني على أموت في جسدها المثالي الذي لا يعرف المرض
والشيخوخة والموت.
- أنا أحبك وأريد جسدك الفاني.
- انت تخدع نفسك ولكن حتى لو كنت تحبني فعلا
فأنا لا استطيع أن أبادلك الحب, لقد تسبب الحب في نزع حياتي مني وأنا أريد أن أعيش
بحرية ,من فضلك اتركني ارحل ولا تبحث عني.
لم
استطع مجادلتها لأنني كنت أعلم أنها على حق, استجبت لطلبها واعطيتها النقود وتركتها ترحل, ولكني ندمت أشد الندم فيما بعد
لأنني لم أصر على معرفة عنوانها , فمنذ أن ودعتها لم تغادر مخيلتي, إنني لا أزال
أحبها, أحبها لإنسانيتها أو ربما برغم
انسانيتها.