سري للغاية
انتصف الليل وحان موعد نومي، أغلقت زر الإضاءة
وارتميت على فراشي.
لم أكد أغمض عيني حتى تسللت إلى عقلي الخامل
عبارة غامضة جذابة، شعرت بخلايا مخي تتوهج وتضيء.
قفزت في
الفراش فرحًا، بعد مدة طويلة من الفقر الإبداعي جاءتني أخيرًا فكرة جديدة.
أشكرك يا رب، كم أنا محظوظة.
بعد أن تأملت الفكرة مليًا تحول
فرحي إلى قلق وارتياب. دقت أجراس الإنذار في أذني. الفكرة رائعة ومبتكرة ولكنها
جريئة. لا، كلمة جريئة لا تكفي لوصفها، إنها مجنونة وخارج الحدود التي حرصت على
الحفاظ عليها. لو نفذتها سيكون الجحيم هو مصيري. لابد أن أنسى أنها خطرت بذهني
وأواصل نومي.
أغمضت عيني وحاولت أن أهدئ من حركة عقلي ولكني
كلما أحاول الاستسلام للنوم أجد الفكرة تعود لتطوف فوق رأسي كالنحلة.
تقلبت يمينًا ويساًرا، تكورت ووضعت المخدة فوق
رأسي وأمرت عقلي بالخمود ولكن ما من فائدة. لا شيء يضاهي عذاب من يصارع عقله وحيدًا
في الليل.
الحل الوحيد هو أن أتوقف عن الصراع وأتحرر من
سيطرة تلك الفكرة بأن أسحبها من سماء الإلهام وأدفنها في الورق.
أحضرت دفتر مذكراتي والقلم ثم جلست على المقعد
المواجه لفراشي وحاولت أن أكتب الفكرة بشكل مختصر حتى اتخلص منها. بمجرد أن وضعت
القلم بين أصابعي رأيت صورا وكلمات تومض أمامي سريعًا، بدون تفكير دونت ما رأيته.
أخذت
أكتب وأكتب بسرعة وبدون وعي، كنت ألهث وأنا اكتب كأني أركض وراء الكلمات رغم أن
الكلمات كانت تتساقط على رأسي كحبات المطر، لم أدري ما الذي أكتبه أو لماذا أكتبه،
نسيت نفسي، نسيت أين أجلس ونسيت الوقت حتى سمعت صوت آذان الفجر فتوقفت عن الكتابة.
شعرت بوجع شديد في أصابعي وظهري فنهضت من المقعد
وتوجهت نحو نافذتي، تطلعت إلى السماء فرأيت أولى خيوط الشمس تمزق عتمة الليل،
تنفست الصعداء وغمرني ارتياح نفسي لا مثيل له، عدت إلى مقعدي وأمسكت بالدفتر وأخذت
أقرأ ما كتبته فاعتراني الذهول.
هل معقول
أن تصدر عني أنا الإنسانة المحافظة هذه الأفكار الجامحة؟. بدا لي ما كتبته كأنه
صادر عن إنسانة أخرى غيري أو ربما هو صادر عن جزء مجهول من نفسي لا اعرفه أو ربما
أنني أشعر بوجوده ولكني لا أريد الاعتراف به.
النص أبهرني، إنه نص قوي مكتوب بشكل منسق ومرتب، إنه حتى لا يحتاج إلى
تصحيح أو تنقيح.
إنه هدية جاهزة قدمتها لي السماء في لحظة تجلي
نادرة.
احترت
في تصنيف ما كتبته، هل هو قصة أم خاطرة أم مقدمة رواية؟ لا أعرف، ولكن أنا متأكدة
أنه أصدق شيء كتبته في حياتي. احترت كيف استخدمه؟، هل أنشره كما هو أم أكتب المزيد
منه وأحوله إلى رواية كاملة؟
قررت أن
أؤجل التفكير فيه إلى الصباح. قبل أن أغلق الدفتر سمعت صوت غليظ يدوي في أذني
بلهجة آمرة قائلًا: " قفي عندك، ممنوع "
التفت إلى الوراء فرأيت رجلًا ضخمًا حاد الملامح،
شاربه طويل، يرتدي بدلة رمادية. دخل حجرتي وأخذ ينظر لي شزرًا.
ارتعدت أوصالي ونهضت من مقعدي في فزع ثم سألته:
- من أنت وكيف دخلت إلى حجرتي؟
- لا يهم، المهم أنني جئت لأحذرك من نشر الكلام
الخارج الذي كتبتيه.
نظرت له باستغراب وسألته:
- كيف عرفت محتوى ما كتبته ؟، هل كنت تقف ورائي
وأنا أكتب؟
ابتسم لي ساخرًا:
- لا احتاج للوقوف ورائك، أنا أعرف كل ما تفكرين
فيه قبل أن تبوحي به.
- من أنت بالضبط؟
- أنا إنسان يهمه أمرك ويخاف عليكِ ويريد أن يحميكِ
من السقوط في الهاوية.
ألا تخجلين من نفسك؟ ألم تشعري بالخزي والذنب
وأنا تكتبين هذا الكلام الوقح الفاجر؟ لقد قمتٍ بخيانة وطنك ودينك بهذا الكلام.
- بالعكس، لقد ارتكبت خيانات أكبر في حق وطني
وديني قبل اليوم. قضيت حياتي كلها أسمع وأطيع بدون مناقشة، أرى الظلم فأصمت وأغض
البصر، أخلط الحقائق بالشائعات وأتلاعب بالألفاظ كالبهلوانات حتى استطيع انتاج أكاذيب
مقنعة، ولكني تعبت من كل هذا، تعبت من الرياء والزيف، وأريد أن أستمع لصوت ضميري
وأبوح بالحقيقة.
رد مستهزئًا:
- الحقيقة!. كم من الموبقات ارتكبت باسم
الحقيقة. الحقيقة نسبية أما الحقيقة المطلقة فلا يعملها إلا الله.
- هذا صحيح ولكن من حقي أن أعبر عن الحقيقة كما
أراها بدون مواربة.
- ليس
من حقك أن تعبري عنها إذا كانت تلك الحقيقة بذيئة ومسيئة. إذا كنت تعتقدين أن القبح الذي كتبتيه هو الحقيقة فمن الأفضل لك الصمت
واعتزال الكتابة.
- الحقيقة دائما مزعجة ولكنها مثل الدواء لابد
أن يحتمل المرء مرارته حتى يشفى.
- ولكن ما كتبتيه لن يفيد سوى أعداء الوطن الذين
يتربصون من أجل النيل منه.
- أعداء الوطن هم من يجلسون على عرشه ويتحكمون
في مقدراته من زمن طويل.
- لا تتمادي في وقاحتك حفاظا على حريتك.
- أين هي حريتي؟، لقد انتزعت مني يوم أن ولدت، اللحظات
الوحيدة التي شعرت فيها أنني حرة فعلا هي اللحظات التي كنت أكتب فيها تلك هذه
الكلمات، لذا أنا على استعداد سأحارب العالم كله حتى أنشرها.
- هذه هي الحماقة بعينها، هل انت مستعدة لقضاء
بقية حياتك مسجونة من أجل نشر مجرد كلمات فارغة؟
- إذا كانت كلماتي فارغة فلماذا تخاف منها؟
- أنا لا أخاف من كلماتك، لكني أخشى على العقول
الصغيرة اليانعة أن تضللها أفكارك الخبيثة.
- العقول الصغيرة لا تحتاج وصاية منك. يكفيها
الخراب الذي تتعرض له يوميًا من أمثالك، من فضلك ارحل واتركني أفعل بكلماتي ما
أشاء.
لانت ملامحه وقال لي بعطف مصطنع:
- مستحيل أن أتركك تلقين بنفسك في التهلكة. أنتِ
لا تزالين شابة والعمر أمامك طويل فلا تخسري حياتك ومستقبلك مقابل لحظة تهور عابرة.
- حياتي؟ أين هي حياتي؟ لقد قضيت كل حياتي في
التظاهر بأنني حية رغم أنني أعيش تحت الأرض، الانسان الحي هو الانسان القادر على
تنفس الهواء النقي وأنا لا أتنفس سوى الهواء المكتوم. الانسان الحي هو الانسان
القادر على قول وفعل ما يريده، وأنا لا أقول ولا أفعل إلا ما يراد مني كأنني آلة اُخترعت
لتنفيذ أوامر أصحابها أو عبدة خُلقت لخدمة أسيادها.
- أنتٍ تبالغين في كلامك، أنتٍ حرة تماما في
اختياراتك، وحتى لو صممتي على نشر كلامك فلن أستطيع منعك، ولكني جئت لتحذيرك من
العواقب الوخيمة لما تنوين فعله.
- أنا أعرف العواقب جيدًا ولدي الاستعداد الكامل
لتحملها.
- يبدو أنكِ لا تدركين العواقب جيدًا وإلا لما
تحدثتٍ بهذه الثقة.
- إذا كانت العواقب هي السجن فأنا أعرف معناه
لأنني أعيش داخله وأرى قضبانه الخفية وأشاهد جلاديه يبتسمون لي في الشاشات
والشوارع و يراقبونني في كل مكان من بعيد. إنني أفضل أن أعيش في سجن صغير واضح
المعالم عن أن أعيش في سجن كبير بجدران متحركة.
- ولكن ما ينتظرك أسوأ بمراحل من السجن.
- هل تقصد الموت؟، أهلا ومرحبا به، الموت هو
أكبر مكافأة يمكنكم أن تقدموها لي لأنه سيخلصني من الموت الأكبر الذي أعيشه كل
يوم.
- لقد أخرجنا الموت من قوائم العقوبات من زمن
بعيد بعد أن أدركنا أنه لم يعد يرهبكم. العقوبات الحديثة التي نقدمها أكثر ابتكارًا
وجموحًا من الموت والسجن. العقوبة لن توجه إليكٍ بل ستوجه لكل من تحبينهم.
ارتجفت ورددت عليه بصوت متوتر:
- لقد سمعت عن مثل هذه العقوبات ولكني لم أصدق
أنها يمكن أن تقع فعلًا لأن لكل شيء حدود.
- نحن لا نسير على الحدود ولا نلتزم بالقواعد
ولذا نحقق ما نصبو إليه دائمًا. أتمنى أن يكون ضميرك مستريح عندما تشاهدين والدك
الرجل الطيب والموظف المخلص يموت بالسكتة القلبية بعد أن يتم طرده من عمله بتهمة
الاختلاس ووضعه في السجن، أو تشاهدين أختك البريئة الجميلة تبكي وتستغيث وهي تفقد
أغلى ما تمتلكه.
انتفضت وأخذت أصرخ:
- أنتم
لستم بشراً، الشياطين تتبرأ من أفعالكم.
- الشياطين تسكن كتب الدين بينما نحن نسكن الأرض
ونصارع كل يوم من أجل البقاء عليها، ونحن على استعداد لفعل أي شيء يحافظ على
وجودنا ويحمينا من الفوضى.
- أنتم من تخلقون الفوضى بالجريمة.
- إننا
فقط نرتكب الجرائم الصغرى حتى نمنع الكوارث الكبرى.
- الكوارث الكبرى قادمة على أيديكم.
- الكوارث لا تقع إلا للحمقى والمارقين من
أمثالك.
- أنا لست حمقاء أو مارقة، وكل تهديداتك لن تجدي
معي ولن تردعني عن نشر كلماتي ومهما كان الثمن. ارحل من حجرتي أيها الوحش.
اقتربت منه ثم أخذت أدفعه خارج باب حجرتي حتى
أخرجته منها وأغلقت الباب. بعد لحظات سمعته صوت ضحكات عالية جعلتني ارتجف.
التفت ناحية اليمين فوجدته يجلس على فراشي
ويواصل إطلاق ضحكاته الواثقة. تطلعت إليه باندهاش وسألته
" كيف عدت للحجرة بعد أن اخرجتك منها؟”،
اختفى من فراشي ثم جلس على مكتبي. أخذت أفرك عينيً غير مصدقة لما أراه.
سألته بفزع:
- من
أنت بالتحديد ومن سلطك علي؟ هل أنت من
الأنس أو من الجن؟
ابتسم لي بغموض وقال :
- أنا لست من الأنس أو من الجن ولكني لم أتِ من
فراغ، لقد خرجت منك.
- متى تعني أنك خرجت مني؟ هل تقصد أنك من صنع
خيالي؟
- نعم وأنت ٍمن قمتي باستدعائي ولذلك جئت إليك
على وجه السرعة.
هززت رأسي بالنفي وصحت:
- أنت كاذب، لابد أنك رقيب مبعوث من السلطة
وتريد أن توهمني أنني مجنونة حتى تسهل عليهم مهمة إلقائي في مستشفى الأمراض
العقلية.
- أنت تضحكين على نفسك، أنا لست مبعوثًا من
السلطة، أنا مبعوث من عقلك وهو من يتحكم في ظهوري واختفائي. وإن كان عقلك لا
يحتاجني لما واصلتي الحديث معي حتى الآن
- إن
كان عقلي هو الذي أخترعك فأنا أطلب منه أن يجعلك تبتعد عني وترحل للأبد.
أغمضت عيني وتنفست ببطء مع كل شهيق وزفير كنت
أراه يتبخر ويختفي تماما. بعد أن فتحت عيني رأيته لا يزال واقفا أمامي يمرقني
بابتسامته الواثقة.
تطلعت إليه بضيق وسألته:
-لماذا لم ترحل؟
- لأن المسألة ليست بهذه البساطة. أنا لست مجرد
فكرة عابرة. ولست مجرد كائن خيالي زارك في لحظة خوف.
أنا جزء
لا يتجرأ من تكوينك، عمري يساوي عمرك لأنني ولدت في لحظة ميلادك، أعيش في خلايا
مخك، أتنفس معك، أتغذى على دمائك وأعصابك، أجري في شرايينك. لا هم لي سواكِ، أسير
ورائك وأراقبك حتى أرعاكِ وأحميكِ من الوقوف على عتبة الممنوع وارتكاب الأخطاء.
- ولكنك لا تحميني من ارتكاب الحماقات بل أنت
السبب الرئيسي في بؤسي لأنك تمنعني من عيش حياتي كما أريد.
- أنا لا أمنعك من الحياة، بل إن وجودي هو سبب
استمرارك في الحياة فلولاي لهلكتِ من زمن بعيد، أنا لا أعيش معكٍ أنتٍ فقط بل أعيش
مع أهلك وأصدقائك وجيرانك، ومهمتي أن أحميكم وأحافظ على ابقائكم سائرين على الصراط
المستقيم في الأماكن المخصصة لكم.
- وإذا كنت بهذه الأهمية فلماذا لا نراك ولا
نشعر بوجودك؟
- لأن
جزء أساسي من نجاحي هو أن أعيش في الظل وأمارس عملي في صمت وأوحي لكم أن قرارتكم
الحكيمة من اختياركم، ولولا أنني تأكدت أنك على وشك ارتكاب خطأ كبير لما ظهرت
أمامك.
- ولكني لا أريد رؤيتك مرة أخرى، من فضلك اتركني
وعد إلى الظل كما كنت.
- لن أعود إلى الظل إلا عندما أتأكد من تراجعك
عن نشر الكلام الذي كتبتيه، لا يمكن أن أتركك تدمرين نفسك وأسرتك.
- وأنا لا يمكن أن أبقى أسيرة لك طوال عمري،
لابد أن أتحرر منك حتى أستطيع أن أعيش كما يحلو لي.
- مستحيل أن تتحرري مني، فتحررك مني سيؤدي إلى
هلاكك والمعركة التي تخوضيها ضدي خاسرة لأنك تخوضيها ضد نفسك، أنا أقوى جزء منك وأساليبي
في الحرب لا يمكنك احتمالها.
فوجئت بصداع موجع يدق رأسي فأخذت أتأوه وأنا
أضرب جبهتي بقبضة يدي وأقول له:
- لقد سبب لي الحديث معك صداع شديد، أرجوك
اتركني حتى أنام.
- أنا الذي جلبت لك هذا الصداع وبإمكاني أن ارفعه
عنك لو اعلنتٍ الاستسلام لي.
اشتد علي الصداع فأخذت أصرخ وقلت له رغما عني :
- أعلن لك استسلامي وأعدك أنني لن أنشر ما كتبته
ولكن أرجوك ارفع عني الصداع.
- لا يكفي أن تقدمي لي هذا الوعد، لابد أن تمزقي
الورقة التي كتبتي فيها كلامك حتى أتأكد أنك لن تتراجعي عن وعدك.
نظرت للورقة بحزن وقلت له
- مستحيل أن أمزق الورقة، كيف أمزق أفضل وأصدق
شيء كتبته في حياتي؟
- لأنه أخطر شيء كتبتيه في حياتك، وربما يدخل
أحدهم غرفتك ليفتشها ويجده في كراستك وحينها سيحدث لك ما لا تحمد عقباه.
- هذا أمر مستبعد حدوثه.
- بل إن حدوثه شائع لأنه وقع لكثير من زملائك من
قبل. لابد أن تحسبي حساب الأسوأ حتى تضمني لنفسك الأمان.
أمسكت
بكراستي واحتضنت الورقة التي كتبت فيها الكلام بأسى، لمعت في ذهني فكرة، قبل أن
أبوح بها وجدته يستبقني:
- لا، لست موافقا على هذه الفكرة.
- استمع لي حتى النهاية. هذا هو الحل الوحيد
الذي يمكن أن يرضيك ويرضيني. سأضع كراستي في الصندوق الذي يحتوي على مجوهراتي، هذا
الصندوق مزود بقفل ومفتاح القفل لا يملكه أحد غيري ولا يمكن أن يشك أحد في وجود
كراسة في هذا الصندوق. إنني لن أستطيع أن أتخلى عن هذا الكلام، أرجوك اتركني أشيعه
إلى المكان الذي يستحقه.
- ومن يضمن لي أنك لن تتراجعي وتخرجين الكراسة
من الصندوق؟
- أنت الضامن لأنك كما ادعيت تراقبني طول الوقت
وبإمكانك الظهور لي وردعي في الوقت المناسب.
- معكِ حق.
رأيته يلوح لي بيديه ثم اختفى من أمامي فجأة،
زال عني الصداع فتنفست الصعداء ثم توجهت فورًا إلى دولابي. فتحته وأخرجت منه صندوق مجوهراتي، وضعت مفتاحي
الذهبي في القفل فانفتح الصندوق، اقتربت من الكراسة وعانقتها بحرارة.
وقبل أن
أضعها في قعر الصندوق، كتبت على الغلاف الخارجي " سري للغاية ، من يعثر على
هذه الكراسة بإمكانه أن ينشر الكلام المكتوب فيها باسمي بعد وفاتي ".
انتصف الليل وحان موعد نومي، أغلقت زر الإضاءة
وارتميت على فراشي.
لم أكد أغمض عيني حتى تسللت إلى عقلي الخامل
عبارة غامضة جذابة، شعرت بخلايا مخي تتوهج وتضيء.
قفزت في
الفراش فرحًا، بعد مدة طويلة من الفقر الإبداعي جاءتني أخيرًا فكرة جديدة.
أشكرك يا رب، كم أنا محظوظة.
بعد أن تأملت الفكرة مليًا تحول
فرحي إلى قلق وارتياب. دقت أجراس الإنذار في أذني. الفكرة رائعة ومبتكرة ولكنها
جريئة. لا، كلمة جريئة لا تكفي لوصفها، إنها مجنونة وخارج الحدود التي حرصت على
الحفاظ عليها. لو نفذتها سيكون الجحيم هو مصيري. لابد أن أنسى أنها خطرت بذهني
وأواصل نومي.
أغمضت عيني وحاولت أن أهدئ من حركة عقلي ولكني
كلما أحاول الاستسلام للنوم أجد الفكرة تعود لتطوف فوق رأسي كالنحلة.
تقلبت يمينًا ويساًرا، تكورت ووضعت المخدة فوق
رأسي وأمرت عقلي بالخمود ولكن ما من فائدة. لا شيء يضاهي عذاب من يصارع عقله وحيدًا
في الليل.
الحل الوحيد هو أن أتوقف عن الصراع وأتحرر من
سيطرة تلك الفكرة بأن أسحبها من سماء الإلهام وأدفنها في الورق.
أحضرت دفتر مذكراتي والقلم ثم جلست على المقعد
المواجه لفراشي وحاولت أن أكتب الفكرة بشكل مختصر حتى اتخلص منها. بمجرد أن وضعت
القلم بين أصابعي رأيت صورا وكلمات تومض أمامي سريعًا، بدون تفكير دونت ما رأيته.
أخذت
أكتب وأكتب بسرعة وبدون وعي، كنت ألهث وأنا اكتب كأني أركض وراء الكلمات رغم أن
الكلمات كانت تتساقط على رأسي كحبات المطر، لم أدري ما الذي أكتبه أو لماذا أكتبه،
نسيت نفسي، نسيت أين أجلس ونسيت الوقت حتى سمعت صوت آذان الفجر فتوقفت عن الكتابة.
شعرت بوجع شديد في أصابعي وظهري فنهضت من المقعد
وتوجهت نحو نافذتي، تطلعت إلى السماء فرأيت أولى خيوط الشمس تمزق عتمة الليل،
تنفست الصعداء وغمرني ارتياح نفسي لا مثيل له، عدت إلى مقعدي وأمسكت بالدفتر وأخذت
أقرأ ما كتبته فاعتراني الذهول.
هل معقول
أن تصدر عني أنا الإنسانة المحافظة هذه الأفكار الجامحة؟. بدا لي ما كتبته كأنه
صادر عن إنسانة أخرى غيري أو ربما هو صادر عن جزء مجهول من نفسي لا اعرفه أو ربما
أنني أشعر بوجوده ولكني لا أريد الاعتراف به.
النص أبهرني، إنه نص قوي مكتوب بشكل منسق ومرتب، إنه حتى لا يحتاج إلى
تصحيح أو تنقيح.
إنه هدية جاهزة قدمتها لي السماء في لحظة تجلي
نادرة.
احترت
في تصنيف ما كتبته، هل هو قصة أم خاطرة أم مقدمة رواية؟ لا أعرف، ولكن أنا متأكدة
أنه أصدق شيء كتبته في حياتي. احترت كيف استخدمه؟، هل أنشره كما هو أم أكتب المزيد
منه وأحوله إلى رواية كاملة؟
قررت أن
أؤجل التفكير فيه إلى الصباح. قبل أن أغلق الدفتر سمعت صوت غليظ يدوي في أذني
بلهجة آمرة قائلًا: " قفي عندك، ممنوع "
التفت إلى الوراء فرأيت رجلًا ضخمًا حاد الملامح،
شاربه طويل، يرتدي بدلة رمادية. دخل حجرتي وأخذ ينظر لي شزرًا.
ارتعدت أوصالي ونهضت من مقعدي في فزع ثم سألته:
- من أنت وكيف دخلت إلى حجرتي؟
- لا يهم، المهم أنني جئت لأحذرك من نشر الكلام
الخارج الذي كتبتيه.
نظرت له باستغراب وسألته:
- كيف عرفت محتوى ما كتبته ؟، هل كنت تقف ورائي
وأنا أكتب؟
ابتسم لي ساخرًا:
- لا احتاج للوقوف ورائك، أنا أعرف كل ما تفكرين
فيه قبل أن تبوحي به.
- من أنت بالضبط؟
- أنا إنسان يهمه أمرك ويخاف عليكِ ويريد أن يحميكِ
من السقوط في الهاوية.
ألا تخجلين من نفسك؟ ألم تشعري بالخزي والذنب
وأنا تكتبين هذا الكلام الوقح الفاجر؟ لقد قمتٍ بخيانة وطنك ودينك بهذا الكلام.
- بالعكس، لقد ارتكبت خيانات أكبر في حق وطني
وديني قبل اليوم. قضيت حياتي كلها أسمع وأطيع بدون مناقشة، أرى الظلم فأصمت وأغض
البصر، أخلط الحقائق بالشائعات وأتلاعب بالألفاظ كالبهلوانات حتى استطيع انتاج أكاذيب
مقنعة، ولكني تعبت من كل هذا، تعبت من الرياء والزيف، وأريد أن أستمع لصوت ضميري
وأبوح بالحقيقة.
رد مستهزئًا:
- الحقيقة!. كم من الموبقات ارتكبت باسم
الحقيقة. الحقيقة نسبية أما الحقيقة المطلقة فلا يعملها إلا الله.
- هذا صحيح ولكن من حقي أن أعبر عن الحقيقة كما
أراها بدون مواربة.
- ليس
من حقك أن تعبري عنها إذا كانت تلك الحقيقة بذيئة ومسيئة. إذا كنت تعتقدين أن القبح الذي كتبتيه هو الحقيقة فمن الأفضل لك الصمت
واعتزال الكتابة.
- الحقيقة دائما مزعجة ولكنها مثل الدواء لابد
أن يحتمل المرء مرارته حتى يشفى.
- ولكن ما كتبتيه لن يفيد سوى أعداء الوطن الذين
يتربصون من أجل النيل منه.
- أعداء الوطن هم من يجلسون على عرشه ويتحكمون
في مقدراته من زمن طويل.
- لا تتمادي في وقاحتك حفاظا على حريتك.
- أين هي حريتي؟، لقد انتزعت مني يوم أن ولدت، اللحظات
الوحيدة التي شعرت فيها أنني حرة فعلا هي اللحظات التي كنت أكتب فيها تلك هذه
الكلمات، لذا أنا على استعداد سأحارب العالم كله حتى أنشرها.
- هذه هي الحماقة بعينها، هل انت مستعدة لقضاء
بقية حياتك مسجونة من أجل نشر مجرد كلمات فارغة؟
- إذا كانت كلماتي فارغة فلماذا تخاف منها؟
- أنا لا أخاف من كلماتك، لكني أخشى على العقول
الصغيرة اليانعة أن تضللها أفكارك الخبيثة.
- العقول الصغيرة لا تحتاج وصاية منك. يكفيها
الخراب الذي تتعرض له يوميًا من أمثالك، من فضلك ارحل واتركني أفعل بكلماتي ما
أشاء.
لانت ملامحه وقال لي بعطف مصطنع:
- مستحيل أن أتركك تلقين بنفسك في التهلكة. أنتِ
لا تزالين شابة والعمر أمامك طويل فلا تخسري حياتك ومستقبلك مقابل لحظة تهور عابرة.
- حياتي؟ أين هي حياتي؟ لقد قضيت كل حياتي في
التظاهر بأنني حية رغم أنني أعيش تحت الأرض، الانسان الحي هو الانسان القادر على
تنفس الهواء النقي وأنا لا أتنفس سوى الهواء المكتوم. الانسان الحي هو الانسان
القادر على قول وفعل ما يريده، وأنا لا أقول ولا أفعل إلا ما يراد مني كأنني آلة اُخترعت
لتنفيذ أوامر أصحابها أو عبدة خُلقت لخدمة أسيادها.
- أنتٍ تبالغين في كلامك، أنتٍ حرة تماما في
اختياراتك، وحتى لو صممتي على نشر كلامك فلن أستطيع منعك، ولكني جئت لتحذيرك من
العواقب الوخيمة لما تنوين فعله.
- أنا أعرف العواقب جيدًا ولدي الاستعداد الكامل
لتحملها.
- يبدو أنكِ لا تدركين العواقب جيدًا وإلا لما
تحدثتٍ بهذه الثقة.
- إذا كانت العواقب هي السجن فأنا أعرف معناه
لأنني أعيش داخله وأرى قضبانه الخفية وأشاهد جلاديه يبتسمون لي في الشاشات
والشوارع و يراقبونني في كل مكان من بعيد. إنني أفضل أن أعيش في سجن صغير واضح
المعالم عن أن أعيش في سجن كبير بجدران متحركة.
- ولكن ما ينتظرك أسوأ بمراحل من السجن.
- هل تقصد الموت؟، أهلا ومرحبا به، الموت هو
أكبر مكافأة يمكنكم أن تقدموها لي لأنه سيخلصني من الموت الأكبر الذي أعيشه كل
يوم.
- لقد أخرجنا الموت من قوائم العقوبات من زمن
بعيد بعد أن أدركنا أنه لم يعد يرهبكم. العقوبات الحديثة التي نقدمها أكثر ابتكارًا
وجموحًا من الموت والسجن. العقوبة لن توجه إليكٍ بل ستوجه لكل من تحبينهم.
ارتجفت ورددت عليه بصوت متوتر:
- لقد سمعت عن مثل هذه العقوبات ولكني لم أصدق
أنها يمكن أن تقع فعلًا لأن لكل شيء حدود.
- نحن لا نسير على الحدود ولا نلتزم بالقواعد
ولذا نحقق ما نصبو إليه دائمًا. أتمنى أن يكون ضميرك مستريح عندما تشاهدين والدك
الرجل الطيب والموظف المخلص يموت بالسكتة القلبية بعد أن يتم طرده من عمله بتهمة
الاختلاس ووضعه في السجن، أو تشاهدين أختك البريئة الجميلة تبكي وتستغيث وهي تفقد
أغلى ما تمتلكه.
انتفضت وأخذت أصرخ:
- أنتم
لستم بشراً، الشياطين تتبرأ من أفعالكم.
- الشياطين تسكن كتب الدين بينما نحن نسكن الأرض
ونصارع كل يوم من أجل البقاء عليها، ونحن على استعداد لفعل أي شيء يحافظ على
وجودنا ويحمينا من الفوضى.
- أنتم من تخلقون الفوضى بالجريمة.
- إننا
فقط نرتكب الجرائم الصغرى حتى نمنع الكوارث الكبرى.
- الكوارث الكبرى قادمة على أيديكم.
- الكوارث لا تقع إلا للحمقى والمارقين من
أمثالك.
- أنا لست حمقاء أو مارقة، وكل تهديداتك لن تجدي
معي ولن تردعني عن نشر كلماتي ومهما كان الثمن. ارحل من حجرتي أيها الوحش.
اقتربت منه ثم أخذت أدفعه خارج باب حجرتي حتى
أخرجته منها وأغلقت الباب. بعد لحظات سمعته صوت ضحكات عالية جعلتني ارتجف.
التفت ناحية اليمين فوجدته يجلس على فراشي
ويواصل إطلاق ضحكاته الواثقة. تطلعت إليه باندهاش وسألته
" كيف عدت للحجرة بعد أن اخرجتك منها؟”،
اختفى من فراشي ثم جلس على مكتبي. أخذت أفرك عينيً غير مصدقة لما أراه.
سألته بفزع:
- من
أنت بالتحديد ومن سلطك علي؟ هل أنت من
الأنس أو من الجن؟
ابتسم لي بغموض وقال :
- أنا لست من الأنس أو من الجن ولكني لم أتِ من
فراغ، لقد خرجت منك.
- متى تعني أنك خرجت مني؟ هل تقصد أنك من صنع
خيالي؟
- نعم وأنت ٍمن قمتي باستدعائي ولذلك جئت إليك
على وجه السرعة.
هززت رأسي بالنفي وصحت:
- أنت كاذب، لابد أنك رقيب مبعوث من السلطة
وتريد أن توهمني أنني مجنونة حتى تسهل عليهم مهمة إلقائي في مستشفى الأمراض
العقلية.
- أنت تضحكين على نفسك، أنا لست مبعوثًا من
السلطة، أنا مبعوث من عقلك وهو من يتحكم في ظهوري واختفائي. وإن كان عقلك لا
يحتاجني لما واصلتي الحديث معي حتى الآن
- إن
كان عقلي هو الذي أخترعك فأنا أطلب منه أن يجعلك تبتعد عني وترحل للأبد.
أغمضت عيني وتنفست ببطء مع كل شهيق وزفير كنت
أراه يتبخر ويختفي تماما. بعد أن فتحت عيني رأيته لا يزال واقفا أمامي يمرقني
بابتسامته الواثقة.
تطلعت إليه بضيق وسألته:
-لماذا لم ترحل؟
- لأن المسألة ليست بهذه البساطة. أنا لست مجرد
فكرة عابرة. ولست مجرد كائن خيالي زارك في لحظة خوف.
أنا جزء
لا يتجرأ من تكوينك، عمري يساوي عمرك لأنني ولدت في لحظة ميلادك، أعيش في خلايا
مخك، أتنفس معك، أتغذى على دمائك وأعصابك، أجري في شرايينك. لا هم لي سواكِ، أسير
ورائك وأراقبك حتى أرعاكِ وأحميكِ من الوقوف على عتبة الممنوع وارتكاب الأخطاء.
- ولكنك لا تحميني من ارتكاب الحماقات بل أنت
السبب الرئيسي في بؤسي لأنك تمنعني من عيش حياتي كما أريد.
- أنا لا أمنعك من الحياة، بل إن وجودي هو سبب
استمرارك في الحياة فلولاي لهلكتِ من زمن بعيد، أنا لا أعيش معكٍ أنتٍ فقط بل أعيش
مع أهلك وأصدقائك وجيرانك، ومهمتي أن أحميكم وأحافظ على ابقائكم سائرين على الصراط
المستقيم في الأماكن المخصصة لكم.
- وإذا كنت بهذه الأهمية فلماذا لا نراك ولا
نشعر بوجودك؟
- لأن
جزء أساسي من نجاحي هو أن أعيش في الظل وأمارس عملي في صمت وأوحي لكم أن قرارتكم
الحكيمة من اختياركم، ولولا أنني تأكدت أنك على وشك ارتكاب خطأ كبير لما ظهرت
أمامك.
- ولكني لا أريد رؤيتك مرة أخرى، من فضلك اتركني
وعد إلى الظل كما كنت.
- لن أعود إلى الظل إلا عندما أتأكد من تراجعك
عن نشر الكلام الذي كتبتيه، لا يمكن أن أتركك تدمرين نفسك وأسرتك.
- وأنا لا يمكن أن أبقى أسيرة لك طوال عمري،
لابد أن أتحرر منك حتى أستطيع أن أعيش كما يحلو لي.
- مستحيل أن تتحرري مني، فتحررك مني سيؤدي إلى
هلاكك والمعركة التي تخوضيها ضدي خاسرة لأنك تخوضيها ضد نفسك، أنا أقوى جزء منك وأساليبي
في الحرب لا يمكنك احتمالها.
فوجئت بصداع موجع يدق رأسي فأخذت أتأوه وأنا
أضرب جبهتي بقبضة يدي وأقول له:
- لقد سبب لي الحديث معك صداع شديد، أرجوك
اتركني حتى أنام.
- أنا الذي جلبت لك هذا الصداع وبإمكاني أن ارفعه
عنك لو اعلنتٍ الاستسلام لي.
اشتد علي الصداع فأخذت أصرخ وقلت له رغما عني :
- أعلن لك استسلامي وأعدك أنني لن أنشر ما كتبته
ولكن أرجوك ارفع عني الصداع.
- لا يكفي أن تقدمي لي هذا الوعد، لابد أن تمزقي
الورقة التي كتبتي فيها كلامك حتى أتأكد أنك لن تتراجعي عن وعدك.
نظرت للورقة بحزن وقلت له
- مستحيل أن أمزق الورقة، كيف أمزق أفضل وأصدق
شيء كتبته في حياتي؟
- لأنه أخطر شيء كتبتيه في حياتك، وربما يدخل
أحدهم غرفتك ليفتشها ويجده في كراستك وحينها سيحدث لك ما لا تحمد عقباه.
- هذا أمر مستبعد حدوثه.
- بل إن حدوثه شائع لأنه وقع لكثير من زملائك من
قبل. لابد أن تحسبي حساب الأسوأ حتى تضمني لنفسك الأمان.
أمسكت
بكراستي واحتضنت الورقة التي كتبت فيها الكلام بأسى، لمعت في ذهني فكرة، قبل أن
أبوح بها وجدته يستبقني:
- لا، لست موافقا على هذه الفكرة.
- استمع لي حتى النهاية. هذا هو الحل الوحيد
الذي يمكن أن يرضيك ويرضيني. سأضع كراستي في الصندوق الذي يحتوي على مجوهراتي، هذا
الصندوق مزود بقفل ومفتاح القفل لا يملكه أحد غيري ولا يمكن أن يشك أحد في وجود
كراسة في هذا الصندوق. إنني لن أستطيع أن أتخلى عن هذا الكلام، أرجوك اتركني أشيعه
إلى المكان الذي يستحقه.
- ومن يضمن لي أنك لن تتراجعي وتخرجين الكراسة
من الصندوق؟
- أنت الضامن لأنك كما ادعيت تراقبني طول الوقت
وبإمكانك الظهور لي وردعي في الوقت المناسب.
- معكِ حق.
رأيته يلوح لي بيديه ثم اختفى من أمامي فجأة،
زال عني الصداع فتنفست الصعداء ثم توجهت فورًا إلى دولابي. فتحته وأخرجت منه صندوق مجوهراتي، وضعت مفتاحي
الذهبي في القفل فانفتح الصندوق، اقتربت من الكراسة وعانقتها بحرارة.
وقبل أن
أضعها في قعر الصندوق، كتبت على الغلاف الخارجي " سري للغاية ، من يعثر على
هذه الكراسة بإمكانه أن ينشر الكلام المكتوب فيها باسمي بعد وفاتي ".
0 تعليقات
رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته