في مديح العزلة
العزلة |
كلمة العزلة عادة ما تبعث الخوف والحزن في النفس
البشرية, فالناس عادة ما يخلطون بين الوحدة والعزلة بسبب اعتقادهم أن العزلة تؤدي
إلى الوحدة , لذلك تجدهم يتجنبون الجلوس بمفردهم في أي مكان خوفا من أن تداهمهم
الوحدة. هناك فرق كبير بين الوحدة والعزلة.
الوحدة هي الشعور بالغربة أو الانفصال النفسي
والعقلي بين الانسان ومن حوله بينما العزلة هي انفصال جسدي فقط, بإمكانك أن تشعر
بالوحدة رغم وجودك وسط مجموعة كبيرة من الناس وبإمكانك أن تشعر بالونس رغم أنك
تجلس بمفردك منعزلا عن الآخرين إذا كنت متصالحا مع نفسك.
من الطبيعي أن يخاف الانسان من العزلة لأنه بطبيعته كائن اجتماعي يستمد حياته من تواجده وسط المجموعة ولا يمكن لحياته أن تصبح
لها معنى بدون وجوده مع أشخاص آخرين يتبادل معهم الحديث ويشاركهم أفراحه واحزانه,
أقصى مخاوف الإنسان هي أن يموت وحيدا ويعثر الناس على جثته بعد فوات الأوان, وأقصى
عقوبة يمكن توقيعها على أي انسان هو أن تفصله عن زملائه وتضعه في سجن انفرادي, وعادة
ما يتعرض السجين الذي يتم وضعه في الحبس الانفرادي إلى عذاب نفسي شديد يؤدي به إلى
الهذيان والجنون. لكن ماذا عن الناس الذين يختارون العزلة بمحض ارادتهم ؟.
العزلة التي اتحدث عنها هنا ليست عزلة تامة بمعنى العيش في جزيرة نائية و الانقطاع تماما عن الحديث مع أي كائن بشري ولكنها عزلة انتقائية يختار فيها الفرد أن يتعامل مع عدد محدود من الناس المقربين له ويتجنب الاختلاط مع الغرباء.
يرى الناس العزلة أمرا مذموما ويتعاملون مع
الشخص المنطوي باعتباره مريض نفسيا او مختل عقليا رغم أن هذه ليست الحقيقة. هناك
كثير من الفئات في المجتمع تنشد العزلة وتجد فيها الراحة والطمأنينة و منهم
الزاهدين والمتعبدين الذي يريدون التقرب إلى الله. على مر التاريخ سنجد جميع الرسل
والانبياء يفضلون الابتعاد عن المجتمعات الفاسدة التي نشأوا فيها ويتقربون إلى
الله بالاختلاء في مكان منعزل كغار حراء الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يلجأ إليه مع أجل التعبد وفيه نزل عليه الوحي المتمثل في سيدنا جبريل. حتى الآن
نجد كثير من المتدينين يلجئون إلى الاعتكاف في المساجد خاصة في شهر
رمضان, العزلة تعطي مساحة للمؤمن حتى يأخذ إجازة من الدنيا والناس وصراعاتهم
لكي يتفرغ لعباده الله بكل جوارحه فيتلقى الحب الإلهي الخالص ويخرج من اعتكافه
أفضل وأنقى روحانيا.
المبدعون أيضا يجدون راحتهم في العزلة, فرغم أن المبدع لا يستطيع أن ينفصل عن الناس لأنه يستمد أفكاره من وحي مجتمعه وبيئته إلا انه في حالة الابداع لابد أن يكون قادرا على الانفصال عن المجتمع والاختلاء بنفسه حتى يتمكن من التفكير بصفاء ذهني وتلقى مصادر الإلهام بدون تشويش خارجي , وبعد أن ينتهي من عمله يستطيع أن يعود للناس ليشاركهم ابداعاته.
العزلة في كثير من الحالات تكون أمرا مرغوبا
ومطلوبا بل أنها تكون هي العلاج الذي يحتاجه الانسان لأزماته النفسية, العزلة تعطي للمرء الفرصة للابتعاد عن صخب المجتمع والضغط العصبي الذي يفرضه وجود المرء وسط الناس وخضوعه لمتطلباتهم ومحاولاته المستمرة لإرضائهم ومجاراتهم وتحمل حماقاتهم. العزلة تعطي للمرء فرصة التأمل والتفكير بعمق وإعادة حساباته واعادة اكتشاف نفسه وأهدافه في الحياة بدون التأثر بآراء الآخرين فيه.
العزلة هي الاختيار الأمثل في عصرنا هذا الذي
يميزه الجنون والهستيريا والاستقطاب الحاد, في هذا العصر الذي يفضل الصوت الواحد
والفكر الواحد صار العقلاء وأصحاب الرأي المخالفة للسائد مارقين ومنبوذين من وجهة
نظر الأغلبية, لذلك يصبح أمام الإنسان العاقل اختيارين, أما أن يتألم من وجوده مع
الآخرين أو يلتزم الصمت ويلجأ للعزلة, نعم العزلة قد تكون مؤلمة إذا طالت ولكن ألم العزلة أخف
كثيرا من الألم الناتج عن الصراع المستمر مع الآخرين أو اخفاء المرء لآرائه
الحقيقة ارضاءً للآخرين, العزلة ليست استسلام أو ضعف , انها احترام للذات وحماية لها
من فساد المجتمع, العزلة التامة لا يمكن أن تتحقق لأن الانسان مجبر بحكم عمله أو
دارسته أن يتعامل مع الناس حتى لو لم يكن يحبهم, كما أن اللجوء المفرط للعزلة
والانطواء قد يؤدي إلى مشاكل نفسية ومنها الانفصال التام عن الواقع , الحل يمكن في
التوازن بدلا من الانغماس الزائد في المجتمع أو البعد المطلق عنه , الحل أن تعرف
متى تقترب ومتى تبتعد وأن تقترب دائما بحذر وأن تحافظ على مسافة بينك وبين الآخرين
وألا تخاف من أن تجلس وحيدا وتحاول أن تكون صديقا لنفسك.
0 تعليقات
رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته